وعاد الحجيج (خطبة الحج )
عبد الله بن محمد البصريملخص الخطبة
1- التعرض لمواسم الخير. 2- حرمة الأشهر الحرم والتحذير من العصيان فيها. 3- اجتماع عرفة بالجمعة اجتماع لمناسبتين فاضلتين. 4- فضل يوم عرفة. 5- أحوال السلف في يوم عرفة. 6- آداب يوم العيد. 7- بعض أحكام الأضحية. 8- نصائح متفرقة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
ألا فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم واغتنموا ساعات العمر ولحظاته، وتعرضوا لنفحات الله الجواد الكريم فإن لله مواسم خيرات يغفر فيها الذنوب والخطيئات ويقيل العثرات ويتجاوز عن السيئات ويعظم فيها الأجر ويضاعف الحسنات فالله الله إخوتي أن تفوتكم هذه المواسم الخيّرات، فالأعمار محدودة، والأنفاس معدودة، والله يجعلني وإياكم من المسارعين للخيرات ولها سابقين.
عباد الله، لكم هي فرحتنا اليوم ـ أحبتي ـ عظيمة، وسرورنا اليوم كبير وسعادتنا بالغة، إذ جمع الله لنا في هذا اليوم بين عيدين عيد الأسبوع (يوم الجمعة) وعيد الحجيج بعرفات اليوم كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: ((يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام)) فلم أجد نفسي إلا أمام أعمال عديدة لابد من التنبيه عليها، فجعلتها وقفات أذكر بها نفسي وإخواني في الله.
فالوقفة الأولى: مع الأشهر الحرم قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمٰوٰت وَٱلأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدّينُ ٱلْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: "وإنما كانت الأشهر الحرم أربعة ثلاث سرد وواحدة فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرّم قبل أشهر الحج شهراً وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون عن القتال وحرّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك، وحرِّم بعده شهراً آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرّم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم من أقصى جزيرة العرب فيزوروه ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً، ثم قال عند قوله تعالى: فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها كما أن المعاصي في البلد الحرام تعظم، فكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام.
وقال ابن عباس رضي الله عنه فيها أيضاً: فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراماً وعظم حرمتهن وجعل الذنب فيها أعظم، والعمل الصالح والآجر أعظم، وقال: (إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكنّ الله يعظّم من أمره ما يشاء) انتهى.
الله أكبر يا عباد الله، ما أعظم الله وأرحمه بعباده إذ حرم الظلم وشدّد في تحريمه في الأشهر الحرم وتذكر أخي الحبيب بهذه الوقفة إخوة لك في الإسلام في أصقاع من الأرض كثيرة يظلمون.
كل جرمهم إنهم بربهم يؤمنون، وبدينهم متمسكون، فنهبت أموالهم، وهدمت ديارهم، وانتهكت أعراضهم، ويتِّم أطفالهم. فلم يجدوا ما يسدون به جوعتهم أو يسترون به عورتهم أو يحمون به أعراضهم أو داراً تقيهم حر الصيف أو برد الشتاء فهلاّ جعلت لهم أخي من دعائك حظاً ونصيباً ومن مالك ما تحتسبه عند الله، فيخلفه عليك ربك في الدنيا والآخرة.
وأنت ـ أخي الكريم ـ، الله. الله في تعظيم حرمات الله. إياك ـ أخي ـ ثم إياك والظلم، إياك وظلم نفسك بارتكاب المعاصي والمنكرات وترك الصلاة ومحاربة الله سراً وجهراً، فإنه يمهل ولا يهمل، ولله سطوات يهلك بها الظالمين فاحذرها، إياك أخي وظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل أو إيذائهم بالقول أو الفعل، فإن حرمة المؤمن عند الله عظيمة جداً، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب وقد وعد الله بأن يستجيب لها ولو بعد حين، فاحذر أخي الحبيب.
الوقفة الثانية: يوم عرفة وفضله وموافقته ليوم الجمعة، فقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال: أي آية؟ قال: ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، قال عمر: (إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائم بعرفة يوم الجمعة).
ففي مثل هذا اليوم نزلت هذه الآية العظيمة التي تدل على إكمال الدين لنا من الله وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، فلا يقبل من أحد دين سواه، وإن لم يرجع فالجنة عليه حرام، والنار جزاؤه ومثواه.
إن يوم عرفة ـ إخوتي ـ يوم فخر للمسلمين إذ لا يمكن للمسلمين في أي مكان أن يحتشدوا بهذا العدد في وقت واحد إلا في هذا المكان. إن في هذا الاجتماع ـ أحبتي ـ آية عظيمة على قدرة الله سبحانه وتعالى، إذ يسمع دعاء كل هؤلاء في وقت واحد على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأجناسهم، ويعطي كل واحد سؤله دون أن تختلط عليه المسائل والحاجات أو تخفى عليه الأصوات والكلمات سبحانه هو السميع البصير العلي الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
يوم عرفة هو الشفع الذي أقسم الله به في قوله: وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ [الفجر:3]، وذكر أن الشاهد الذي أقسم الله به في قوله: وَشَـٰهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج:3]، كما ثبت ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً في مسند الإمام أحمد: ((الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم الجمعة)) وقد اجتمع بحمد الله اليوم الشاهد والمشهود يوم عرفة ويوم الجمعة.
يوم عرفة إخوتي: يوم العتق من النار والمباهاة بأهله من الله للملائكة الكرام، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟...)) فيغفر الله فيه لكل من وقف ومن لم يقف فيه ممن قبل توبتهم واستغفارهم.
ويوم عرفة عباد الله يوم خوف وخشوع وخشية من الله، يوم يذل فيه المؤمنون لربهم مخبتين يوم البكاء والانكسار بين يدي الغفور الرحيم، يلحون بخير الدعاء وبخير ما قال النبي صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) ليعلنوا بذلك صدق ولائهم لله وتوحيدهم إياه، فلا يدعون غيره ولا يرجون سواه.
وفي هذا اليوم يغفر الله لمن صام من غير الحجيج السنة التي قبلها والسنة التي بعدها، فلا إله إلا الله ـ إخوتي ـ ما أحلم الله على عباده وما أكرمه وهو الجواد الكريم.
ولقد كان لسلفنا الصالح في موقف عرفة مآثر لا تنسى ومواقف خالدة، فقد وقف مطرف بن عبد الله وبكر المزني بعرفة فقال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي. وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم.
وقف أحد الصالحين بعرفة فمنعه الحياء من ربه أن يدعوه فقيل له: لم لا تدعو؟ فقال: أجد وحشة، فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب، فبسط يديه ووقع ميتاً.
وروي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً. يعني سدس درهم أكان يردهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
وقال ابن المبارك جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تذرفان فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له.
أما الوقفة الثالثة: فمع العيد غداً، يوم النحر، يوم الثج والعج، يوم الفرح بطاعة الله تعالى، فاحرص أخي على شهود صلاة العيد مع المسلمين والتكبير من فجر يوم التاسع إلى آخر أيام التشريق، ولتأتي من طريق وترجع من آخر وتتجمل بأبهى زينة وأفضل حلة، واحذر من اتخاذ زينة محرمة كإسبال الثياب وإظهار العورة لشفافية الثياب أو لعدم لبس ما يسترها أو كمن يحلق لحيته فإن الله ورسوله أمر بإعفائها وعدم أخذ شيء منها.
ولا تأكل شيئاً قبل الصلاة حتى ترجع بعد الصلاة والخطبة، فتذبح الأضحية وتأكل منها كما هي السنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتجنب في اختيار الأضحية العوراء والعرجاء والمريضة والهزيلة والعضباء والهتماء، وأفضلها أكرمها وأسمنها وأغلاها ثمناً وقم بذبحها بنفسك، وإذا وكلت أحداً غيرك فلا بأس بذلك، وأرفق بالأضحية عند ذبحها، فلا تحد السكين أمامها، ومكنها من الأكل والشرب قبل ذلك، وحدّ شفرتك قبل ذبحها، ولا تذبح واحدة بحضرة الأخرى، ويجب عند ذبحها قطع المريء والحلقوم وأحد العرقين اللذين في العنق أو كليهما.
والسنة في تقسيمها ثلاثاً، ثلث يؤكل، وآخر يهدى، وآخر يتصدق به على الفقراء، ووقت الذبح بعد صلاة العيد إلى آخر يوم الثالث عشر من ذي الحجة، وتوبوا إلى الله عباد الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يغفر لكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار.
وقال ابن القيم رحمه الله يصف حال الحجيج في بيت الله الحرام:
فللـه كـم مـن عبـرة مهراقــة وأخـرى على آثارهـا لا تقـدم
وقد شـرقت عيـن المحـب بدمعها فينظـر من بيـن الدموع ويسحمُ
وراحوا إلى التعريف يرجون رحمته ومغفـرة ممـن يجـود ويكـرم
فللـه ذاك الموقف الأعظـم الـذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
ويدنـو بــه الجبـار جل جلالـه يباهـي بهم أملاكـه فهو أكـرم
يقول عبـادي قـد أتونـي محبـةً وإنـي بهـم بـر أجـود وأكرم
فأشـهدكم أني غفـرت ذنوبهــم وأعطيهـم مـا أملـوه وأنعـم
فبشراكم يا أهـل ذا الموقف الـذي به يغفـر الله الذنـوب ويـرحم
فكـم من عتيـق فيـه كمُّل عتقـه وآخـر يستسعي وربـك أكـرم
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وقدوة الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله فيما استرعاكم الله تعالى من الأبناء وأحسنوا تربيتهم فإن الله سائلكم عنهم يوم القيامة أصلح الله لنا ولكم ذرياتنا، إنه سميع مجيب.
عباد الله، الوقفة الرابعة في هذه الخطبة: وهي حول الأذى والضجيج الصادر من بعض أبناء أهل الحي، والذي يتأذى منه المصلون في المسجد قبل الصلاة وبعدها، فأقول: إن الجهد لابد أن يكون متبادلاً ـ إخوتي ـ بين الإمام وأهل الحي، فإذا ما رأيت أخي الكريم مثل هذه الظاهرة خارج المسجد فعليك بإنكار ذلك، ولا يكن دورك فقط هو إبلاغك إمام المسجد فقط، فلو أن كل مصلي أنكر على هؤلاء لما رأيت هؤلاء والأبناء يتخلفون عن الصلاة أو يؤذون أهل المسجد قبل وبعد الصلاة، وعليك أخي التلطف والرفق في الإنكار على ولي هؤلاء الأبناء، فقد كان هذا شأن نبينا صلى الله عليه وسلم في مواقف أشد من هذه المواقف كموقف ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد ومعاوية بن الحكم حينما تكلم في الصلاة جهلاً منه، فما جأر ولا صرخ في وجوههم ولا وبخهم، بل أرشدهم إلى ما ينبغي فعله في هذه المساجد وعلمهم، فأحبوه واستجابوا لأمره صلى الله عليه وسلم.
وأنتم أيها الآباء الفضلاء، احفظوا أبناءكم من التجول في الطرقات لغير حاجة وحذروهم من معاشرة رفقاء السوء، اجعله معك دوماً في الصلاة جنباً إلى جنب، وأدبهم بآداب الشريعة، وعلمهم حقوق بيوت الله تعالى، وأن لها حرمة يجب أن تعظم وتوقر.
وأنتم يا شباب الإسلام، ارجعوا إلى ربكم، واتقوه في أنفسكم، ولا تغتروا بفتوتكم وقوتكم، فوالله الذي لا إله غيره، ليأتين عليكم يوماً تتمنون فيه الرجعة إلى الدنيا لركعة أو سجدة، فما تستطيعون.
والتزم أخي الحبيب ببيت الله والرفقة الصالحة وكتاب الله تعالى ولا تكن سبباً في أذية المسلمين فإن ذلك عند الله عظيم، ولا تكن سبباً في شتم أبيك فتكون بذلك من العاقين.