وماذا بعد الحجالحمد لله الذي هدى عباده إلى الطريق القويم والصلاة والسلام على النبي صاحب الحوض والمقام العظيم وآله وصحبه ومن تبعهم على الصراط المستقيم. وبعد:
أخي الحاج:
إذا نوى الحجاج الإنصراف إلى أوطانهم، تذكروا الآباء والأمهات والزوجات والأبناء والأخوان فيحملون معهم الهدايا، ومن كان موسعاً عليه، حمل أنواعاً من البضائع للتجارة، ولا حرج على الحاج في ذلك فإن الله تعالى قال: {لَيسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مّنَ رَّبَكُم فَإذَا أَفَضْتُمْ مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عندَ المَشْعَر الحَرَام وَاذْكُرُوه كَمَا هَدَاكُمْ وَإن كُنتُم مّن قَبْلِه لَمنَ الَضَّاليِنَ} [البقرة:198].
قال الإمام القرطبي: "في الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة وإن القصد إلى ذلك لا يكون شركاً ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، روى الدارقطني في سننه عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إني رجل أكرى في هذا الوجه وإن ناساً يقولون: إنه لا حج لك، فقال ابن عمر: جاء رجل إلى
صلى الله عليه وسلم فسأله مثل هذا الذي سألتني فسكت حتى نزلت هذه الآية: {لَيسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مّنَ رَّبَكُم ..} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لك حجاً»".
أخي الحاج: إن الأخذ من الدنيا بقدر لا يؤثر في الإخلاص، ولكن أخي: كيف وجدت مشاعرك وأنت تودع تلك المعالم الطاهرة؟ أما رأيت أخي إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن لا ينصرفوا عن مكة حتى يطوفوا طواف الوداع، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت»".[رواه مسلم].
أخي الحاج: هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وهم يودعون البيت المعظم، أن يطوفوا طوافهم الأخير ليخرجوا من مكة وقد امتلأت أعينهم وقلوبهم بعظمة ذلك البيت زاده الله شرفاً.
وأنت أخي الحاج: إذ تودع البيت الحرام، ما الذي استشعرته وأنت تتهيأ لمغادرة تلك الربوع الطاهرة؟
أخي: لا شكّ أن وداع تلك المعالم الطاهرة شديد على النفس، وخاصة تلك النفوس التي أخلصت لمولاها تعالى وهي تؤدي مناسك الحج.
ثم أخي الحاج: تذكر وأنت تودع البيت المعظم أنك كنت في أيام طاعات ومواسم قربات وما اسعدها من لحظات، ولكن أخي: هل تنقطع الطاعات إذا رحلت إلى أوطانك؟ وأنت تذكر مثولك بين يدي مولاك سبحانه وتعالى عند بيته المعظم وتذكر يوم عرفة وهيبته وأيام منى وعظمتها.
أخي: كيف يسوغ لك إذاً أن تتبدل أحوالك بغيرها، فداوم على الطاعات، وافتح صفحة جديدة في حياتك، لتنال صفات أهل الحج المبرور، فقد قال الحسن البصري: "الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهداًً في الدنيا راغباً في الآخرة".
وقال بعضهم: "من علامات الحج المبرور: إن ذلك يظهر بآخره فإن رجع خيراً مما كان عرف أنه مبرور".
ثم هنالك شيء آخر أخي الحاج: وأنت تودع البيت الحرام، إسأل الله أن لا يكون هذا آخر العهد ببيته، فإنّ وصل الطاعات من أسباب الثبات، كما أن وصل المعاصي من أسباب الزيغ والضلال.
أخي: دوامك على الطاعات هو مفتاح فلاحك يوم العرض الأكبر وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يُسأل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «أدومه وإن قلّ» [رواه مسلم].
أخي الحاج: إن من علامات الصلاح المداومة على الطاعات وإن قلّت، وهذه أخي درّة نفسية أتحفك بها وهي: عليك أخي أن تتشبث بعمل صالح فتلزمه وتداوم عليه، ولا تستحقر ذلك، عسى الله تعالى أن يكتب لك حسن الختام ويحفظ لك بركة حجك.
أخي الحاج: لا تكن من أولئك الذين لا يتذكرون الطاعات إلا في مواسم معينة، فإن انصرفت هذه المواسم عادوا إلى حالهم الأول فقد سأل علقمة عائشة رضي الله عنها فقال: يا أم المؤمنين كيف كان عمل رسول الله هل كان يخص شيئاً من الأيام؟ قالت: "لا كان عمله ديمة وأيكم يستطيع ما كان رسول الله ؟!" [رواه البخاري].
ويحكي محمد بن القاسم عن عائشة رضي الله عنها: "أنها كانت إذا عملت العمل لزمته".
أخي الحاج: لابدّ لك من الصبر على الطاعات وأنت تواصل مشوار حياتك الجديدة واصبر أيضاً عن المعاصي فإن الصبر على الطاعات وعن المعاصي من أرفع درجات الصبر، قال ميمون بن مهران: "الصبر صبران فالصبر على المصيبة حسن وأفضل منه الصبر عن المعصية".
ولا تكن أخي الحاج من أولئك الذين قال فيهم الإمام ابن القيم: "فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم وشهواتهم وأقل الناس صبراً في طاعة ربهم، فيصبر على البذل في طاعة الشيطان أتمّ الصبر ولا يصبر على البذل في طاعة الله في أيسر شيء ويصبر على تحمل المشاق لهوى نفسه في مرضاة عدوه ولا يصبر على أدنى المشاقّ في مرضاة ربه.
فهو أصبر شيء على التبذل في طاعة الشيطان ومراد النفس وأعجز شيء عن الصبر على ذلك في الله وهذا أعظم اللؤم ولا يكون صاحبه كريماً عند الله ولا يقوم مع أهل الكرم إذا نودي بهم يوم القيامة على رؤؤس الأشهاد ليَعلَم أهل الجمع من أولى بالكرم اليوم أين المتقون".
أخي الحاج: إن عاقبة الصابرين هي الجنة: {وَالَّذيِنَ صبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيةً وَيدْرَءُونَ بالحسَنَةِ السَّيئةَ أوُلَئِك لَهُمْ عُقْبَى الدَّار (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدخُلُونَهَا وَمَنَ صَلَحَ منْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجهمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيْهِم مّن كُلِ بَابٍ (23) سَلاَمِّ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَّنِعْمَ عُقْبَى الدَّارَ} [الرعد:22-24].
وفي قوله تعالى: {سَلاَمِّ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ .. } قال الفضيل بن عياض: "صبروا على ما أمروا به وصبروا عما نهوا عنه".
أخي: النفس بطبعها تحب الكسل والراحة، فلا تعطها مناها حتى لا يجد الشيطان إليك سبيلاً، قال الحسن البصري: "إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوماً في طاعة الله فبغاك وبغاك فرآك مداوماً ملّك ورفضك وإذا كنت مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك".
أخي الحاج: وأنت قادم من حجك فإنك مازلت قريباً عهدك بالطاعات فإذا واصلت في ذلك المشوار رُجى لك الخير، فبادر أخي نشاطك قبل أن يدخل الفتور والكسل، وإن أنت أخي ركنت إلى الكسل تمكنت منك النفس الأمارة بالسوء وسيطر عليك شيطانك فيذهب حجك أدراج الرياح، عن الحريث بن قيس قال: "إذا أردت أمراً من الخير فلا تؤخره للغد وإذا كنت في أمر الدنيا فتوخ وإذا كنت في الصلاة فقال لك الشيطان أنك ترائى، فزدها طولاً".
أخي الحاج: المبادرة المبادرة ولا تقولن سوف أو سأفعل وهذا ثمامة بن بجاد السلمي أوصى قومه فقال: "أي قوم أنذرتكم سوف أعمل سوف أصلي سوف أصوم".
أخي الحاج: جاهد نفسك، ولا تضعف كما جاهدتها أيام كنت بتلك الأماكن الطاهرة {وَالَّذيِنَ جَاهَدُوا فينَا لَنَهْدينَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنِّ اللهَ لَمَعَ المُحْسنينَ}[العنكبوت:69].
{فَأَمَّا مَن طَغَىَ (37) وَآثَرَ الحَيَاَةَ الدُنيَا (38) فَإنَ الجَحيمَ هي المَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَاف مَقَامَ رَبّه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الَّهَوَى (40) فَإنَّ الجَنَّة هيَ المَأْوَى} [النازعات:37-41].
أخي الحاج: لا يفوتنك أن تكثر من دعاء الله تعالى أن يعينك على الثبات في الطاعات، فأكثر أخي من الابتهال والتوجه إلى الله، أن يسدد خطواتك وأنت تسلك سبيل دينه الحق، وقد كان النبي الأكرم يكثر من سؤال ربه أن يثبته على دينه، سئلت أم سلمة رضي الله عنها عن أكثر دعائه فقالت: كان أكثر دعائه: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» فقيل له في ذلك؟ فقال: «إنه ليس آدمي إلا قلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ» [رواه الترمذي وأحمد وابن أبي شيبة، سلسلة الأحاديث الصحيحة:2091].
وفي رواية كان صلى الله عليه وسلم يقول: «يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك» [رواه ابن ماجه:صحيح ابن ماجه:الألباني:166].
أخي الحاج: إذا كان هذا النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يثبته على دينه، وقد رأى من آيات ربه ما يكفي في أن يثبت قلبه على دين الله تعالى، فكيف بنا نحن؟!! وها أنت أخي في زمان كثرت فيه الفتن وأسباب الانحراف، في زمان لا تجد فيه أعواناً على الحق، بل إذا رأوا منك التزاماً بالدين سخروا منك وأسمعوك كل قبيح، ولكن المؤمن على ميعاد من ربه فلا يلتفت إلى ذلك. فلابد منك أخي أن تكثر دعاء الله أن يثبتك على دينه، وليكن دعاؤك بقلب مخلص، عرف لذة الطاعات واستأنس بالقربات ولا تدعُ دعاءَ غافل لا يدرك ما يقول، فإنك أخي الحاج تحتاج إلى الثبات على طاعة الله تعالى، حتى تقطف ثمار حجك، وتذوق بركته.
أخي الحاج: هنالك أمر مهم أحب أن أذكرك إياه وأنت تعود إلى أوطانك، وهو: إياك أخي أن تنظر إلى نفسك نظرة أهل الغرور، الذين إذا عملوا القليل من الطاعات، رأوا أنفسهم كأنهم أفضل أهل الأرض. ولكن أخي: انظر إلى نفسك دائماً بعين التقصير، فإنك مهما عملت من الصالحات فلن تؤدي شكر الله تعالى في أقل نعمه عليك، وإذا أردت أخي أن تعرف حال الصالحين بعد فعلهم للصالحات فتأمل معي هذه المواقف لتعلم أن عباد الله المخلصين يقرون دائماً بالتقصير. فهذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه بعد توليه الخلافة خطب خطبته المشهورة: "أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم..".
قال الحسن البصري: "بلى والله إنه لخيرهم، ولكن المؤمن يهضم نفسه". ويحكي لنا محمد بن عطاء قال: كنت جالساً مع أبي بكر رضي الله عنه فرأى طائراً فقال: "طوبى لك يا طائر تأكل في هذا الشجر ثم تبعر ثم لا تكون شيئاً وليس عليك حساب، وددت أني مكانك". فقلت له: أتقول هذا وأنت صديق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!.
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "لو نادى منادٍ يوم القيامة: أيها الناس أدخلوا الجنة إلا واحداً لظننت أني ذلك الواحد".
أخي الحاج: وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف تكون عبادة الله فكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فإذا سألوه قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟!!» [رواه البخاري].
وقال صلى الله عليه وسلم: «والله إنّي لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّة» [رواه البخاري].
أرأيت أخي إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو يقوم بعبادة مولاه تعالى بهذه الصورة أيحق لواحد بعد هذا أن يقول: إني عبدت الله حق العبادة؟!!.
أخي: أهضم نفسك حقها تستقم لك، وإن نظرت إليها بنظرة الكمال، قصّرت بك، حتى يدخلك النقص في أداء الواجبات.
ثم أخي الحاج: أدلك على علاج عجيب للكسل عن مواظبة الطاعات فإنك إن أخذته كان له الأثر العجيب، أتدري ما هو هذا العلاج؟! إنه الموت، فتذكر أخي أنك راحل عن هذه الدنيا إلى دار يُجزى فيها المحسنون والمسيئون، فإن أردت أن تدوم لك بركة حجك، فذكّر نفسك بالموت، فإنها حينئذ تبادر إلى الطاعات وتنشط للعبادات، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم يعلّم ابن عمر رضي الله عنهما هذا العلاج العجيب فيأخذ صلى الله عليه وسلم بمنكبه وهو يقول له: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك". [رواه البخاري].
قال الإمام النووي: "معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه".
أخي: كان الحسن البصري يقول: "المبادرة المبادرة فإنما هي الأنفاس لو قد حسبت انقطعت عنكم أعمالكم التي تقربون بها إلى الله عز وجل رحم الله امرءاً نظر لنفسه وبكى على ذنوبه ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] ثم يبكي ويقول: أخي العدد: خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك آخر العدد دخولك في قبرك".
أخي الحاج: وهذا عمر بن عبد العزيز يقول: "نغّص هذا الموت على أهل الدنيا ما هم فيه من غضارة الدنيا وزينتها، فبينما هم فيها كذلك وعلى ذلك أتاهم حياض الموت فاخترمهم فالويل والحسرة هنالك لمن لم يحذر الموت ويذكره في الرخاء فيقدم لنفسه خيراً يجده بعدما فارق الدنيا وأهلها.." ثم غلبه البكاء فقام.
إخواني إلى كم تماطلون بالعمل وتطمعون في بلوغ الأمل وتغترون بفسحة المهل ولا تذكرون هجوم الأجل؟ ما ولدتم فللتراب وما بنيتم فللخراب وما جمعتم فللذهاب وما عملتم ففي كتاب مدخر ليوم الحساب.
أخي الحاج: لقد نثرت لك ما في مكنون قلبي، وأهديتك هذه التحف، فتأمل فيها، ثم إني أسأل الله تعالى أن يثبتني وإياك على دينه الحق ويرزقني وإياك السعادة في الدارين.
دار ابن خزيمة