ملخص الخطبة
واجب الأمة في القيام برعاية مصالح الأفراد وحقوقهم والأدلة على ذلك , وعاقبة التفريط في ذلك – كذب دعاوى حقوق الإنسان في ظل المجتمعات الحديثة – يُتْم النبي صلى الله عليه وسلم وما في ذلك من فوائد ودِلالات – اهتمام الشرع باليتيم والوصية به – التحذير من أكل أموال اليتيم بالباطل
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله فإن تقوى ربكم عليها المعول، والزموا سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصدر الأول.
أيها المسلمون، الأمة مكلفة برعاية مصالحها وحقوقها، مأمورة بالتعاون فيما بينها على البر والتقوى، والمودة والنصرة.
التفاضل فيما بينها بالتقوى والعمل الصالح، والتسابق في البر والمعروف، والتنافس في الفضل والإحسان.
ودين الإسلام أثبت لها حقوقاً وواجبات في فئاتها وطبقاتها.
إنها حقوق وواجبات ثابتة، مقرونة بحق الله سبحانه في الإفراد بالعبادة:
وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36].
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]، الآيات إلى آخر الحقوق العشرة في قوله سبحانه: وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
وقوله سبحانه في مقام آخر: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23]، في سبع عشرة آية مختتمة بقول الحق سبحانه: ذالِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء:39].
حقوق عظمى، ووصايا كبرى، التقصير فيها من الكبائر، والتفريط فيها من الموبقات. حقوق للوالدين والأقربين، واليتامى والمساكين، وأبناء السبيل والجيران، والأصحاب والأغراب.
وهذه وقفة ـ معاشر الأحبة ـ مع حق من هذه الحقوق تضمنته هذه الآيات الكريمات، حق عظيم يتأكد التذكير به، والمسلمون بمشكلاتهم ومحنهم يتزايد فيهم صاحب هذا الحق وتتنوع في تكاثره الأسباب، إنه حق اليتيم؛ يتيم أفغانستان، ويتيم البوسنة والهرسك، ويتيم الصومال، واليتيم المسلم في كل مكان.
أيها الإخوة، ومن أجل إبراز محاسن الإسلام، والتذكير بسبقه في هذا الميدان وكل ميدان، تحسن الإشارة إلى تعاظم النفاق الدولي المعاصر حول حقوق الانسان. لقد أعلنوا عن هذه الحقوق حين كان الدب الأحمر الشيوعي فاغراً فاه ليلتقم ديموقراطيتهم، وما تسيطر عليه من أرزاق الناس وأسواق العالم. يا ترى من هو هذا الإنسان الذي نادوا بحقوقه، وأظهروا التعاطف معه؟!
إن المتبصر يرى أناساً كثير تهدر حقوقهم في أحضان دعاة هذه الحقوق وبين ظهرانيهم، يا ترى ما حال أهل البوسنة والهرسك؟!
إن كثيراً من هذه الشعوب بواقع حالها وما يجري أمام أعينها تدرك أن الإنسان المقصود أعلاه، هو عندهم جنس من المواد الخام، يولد ليستثمر أو يستهلك. في مقياسهم لكل لون من البشر قيمته، ولكل ملة من الملل حسابها.
القوي عندهم له حق وليس عليه واجب، والضعيف عليه واجب وليس بإزائه حق.
وليعلم حق العلم أن الرعاية الدقيقة للحقوق لا تتحقق على وجهها بمجرد قانون من عندهم يصدر، أو دستور ملزم، فكم من تشريعات وضعت، ومعاهدات أبرمت، وظل السلب والنهب على أيدي اللصوص يسطون بقوتهم وتلاعبهم، ويستطيلون بمكرهم وتلونهم.
لا يمنع إلا التقوى الصادقة والوازع الديني الخالص. إن مظلة العدالة في الإسلام تحمي الضعاف، وتحنوا على الصغار، وتحفظ حقوقهم، وتنظم علاقاتهم، فلا يُستذل ضعيفٌ لضعفه، ولا يُعتدى على عاجز لعجزه.
ولقد ذلت ـ ولسوف تذل ـ كل أمة تضيع ضعيفها ويتيمها، وتجعل من نفسها مسبعة لا يعيش فيها إلا الوحوش الضارية، أو الثعالب الماكرة.
إذا كان الأمر كذلك ـ أيها الإخوة ـ فحسب اليتامى أن يكون أسوتهم محمداً فتلك ـ وربك ـ هي الإنسانية بجلالتها، وهي الحقوق بأسمى معانيها.
وحسب الأوصياء أن يعلموا أن يُتْمَ محمدٍ قد رعاه ربه وتولاه، فآواه وهداه أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى [الضحى:6].
وحسب كافل اليتيم أن يكون مع النبي في جنات عدن كهاتين، وأشار عليه الصلاة والسلام بإصبعه السبابة والوسطى(1)[1].
وقد يرغب محب الخير أن يعرف السر في بلوغ الكافل هذه المنزلة العظيمة، والرتبة الشريفة ليكون قريناً لنبيه في المقام العظيم.
يقول أهل العلم: إن محمداً كتب الله على يديه هداية قوم كانوا في ضلال مبين، قام عليهم، وأصلح شأنهم، علمهم وأرشدهم، ودلهم على الحق والطريق المستقيم.
وكذلك كافل اليتيم، يحفظ يتيمه في حال صغره لا يعقل ولا يفقه، فيدله ويهديه، ويهذبه ويربيه، فإذا ما بلغ مبلغ الرجال، كان رجلاً سوياً، محفوظ الحقوق، موفور الكرامة، مع ما يتحمل الكافل من تبعات الوصاية والرعاية، وشؤون التربية وحسن العناية، وما يحف بذلك من تقوى ونزاهة وعفاف.
هذه هي الإنسانية، وهذه هي حقوقها في دين الله.
أيها الإخوة في الله: إن لليتيم حظاً موفوراً في نصوص الكتاب والسنة، رعاية وحفظاً، وتربية وتأديباً، وعناية شديدة في الكف عن إيذائه وقهره، وزجره أو نهره.
لقد تنزلت الآيات في حقه في أوائل ما تنزل من القرآن المكي: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ [الضحى:9]. أَرَءيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون:1،2]. كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [الفجر:17]. فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ [البلد:11-15].
وفي الحديث: ((إني أُحَرِّجُ عليكم حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة))(2)[2].
وفي حديث عند مسلم: ((كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة))(3)[3]. قال الإمام ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي في الجنة. ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يجلس على طعام إلا على مائدته أيتام.
أيها الإخوة المسلمون، اليتيم فرد من أفراد الأمة ولبنة من لبناتها. غير اليتيم يرعاه أبواه، يعيش في كنفهما تظلله روح الجماعة، يفيض عليه والداه من حنانهما، ويمنحانه من عطفهما، ما يجعله ـ بإذن الله ـ بشراً سوياً، وينشأ فيه إنشاءً متوازناً.
أما اليتيم فقد فَقَدَ هذا الراعي، وفاحش بالعزلة، ومال إلى الانزواء، ينشد عطف الأبوة الحانية، ويرنو إلى من يمسح رأسه، ويخفف بؤسه، يتطلع إلى من ينسيه مرارة اليتم وآلام الحرمان.
كم من أم لأيتام يحوم حولها صبيتها وعينهم شاخصة نحوها، لعلهم يجدون عندها إسعافاً.
وإن شئتم أن تذرفوا الدمع ساخناً فاذكروا ساعة الاحتضار وَدُنوِّ الأجل، وتذكروا حال الصبية الصغار والذرية الضعاف الذين يتركهم هذا المحتضر وراءه، يخشى عليهم ظروف الحياة، وبلاء الدهر، يتمنى لهم ولياً مرشداً يرعاهم كرعايته، ويربيهم كتربيته، يعوضهم بره وعطفه.
من تذكر هذه الساعة، وعاش هذه الحالة، فليذكر حال اليتيم وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].
إن اليتيم إذا لم يجد من يستعيض به حنان الأب المشفق والراعي الرافق، فإنه سيخرج نافر الطبع، وسيعيش شارد الفكر، لا يحس برابطة، ولا يفيض بمودة.
وقد ينظر نظر الخائف الحذر، بل قد ينظر نظر الحاقد المتربص، وقد يتحول في نظراته القاتمة الى قوة هادمة.
أيها المسلمون، من خيار بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه.
خفض الجناح لليتامى والبائسين دليل الشهامة، وكمال المروءة. ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء))(4)[4]، وتحفظ من المحن والبلايا. إن كنت تشكو قسوة في قلبك فأدْن منك اليتامى، وامسح على رؤوسهم، وأجلسهم على مائدتك، وألن لهم جانبك.
إذا رجوت أن تتقي لفح جهنم فارحم اليتامى وأحسن إليهم وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً