مكتبة الخطب
الخطب المكتوبة
ملخص الخطبة
البعث والنشور والجزاء والحساب أحد أركان الدين – سورة (ق) وخطبته بها صلى الله عليه وسلم والسر في ذلك – تفسير السورة
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، يوم ينفخ في الصور، ويبعث من في القبور، ويظهر المستور، يوم تبلى السرائر، وتكشف الضمائر، ويتميز البر من الفاجر.
أيها الأخوة في الله، أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]. أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ [ص:27].
المكلفون مؤاخذون بأعمالهم، تكتب ألفاظهم، وتسجل ألحاظهم في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم.
أيها المسلمون والمسلمات، البعث والنشور والجزاء والحساب أحد أركان دين الله، جاءت به جميع الرسل، والغريب العجيب أنه ما من شيء في دعوة هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام استبعده الكفار واستغربوه، وتعجبوا منه وأنكروه مثل إنكارهم اليوم الآخر.
والقرآن الكريم قد سجل على هذه الأجيال الكافرة جيلاً بعد جيل إصرارها وإنكارها؛ وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29]. أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَءنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد:5]. وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ [النحل:38]. وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً [مريم:66]. أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:35-37]. بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الاْوَّلُونَ قَالُواْ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هَاذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ [المؤمنون:81-83].
أيها الإخوة، وبين أيدينا سورة عظيمة كأنها قد خصصت لمعالجة هذه القضية، سورة ذات دلالات عظيمة وآيات عميقة، تخاطب العقول، وتطبب أمراض الشكوك لا بالجدل العقلي العقيم؛ ولكن بالطريقة القرآنية الفريدة الصالحة لكل زمان ومكان. إنها السورة التي كان يقرؤها ، ويخطب بها على المنابر في الجُمَع والأعياد والمجامع الكبار، كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور، والمعاد والقيامة والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.. تلكم هي سورة: ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ [ق:1].
أخرج أحمد ومسلم من حديث أم هشام بنت حارثة قالت: (لقد كان تنورنا وتنور النبي واحداً سنتين أو سنة أو بعض السنة، وما أخذت ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ إلا على رسول الله كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس)(1)[1].
سورة عظيمة، جلية بحقائقها، ظاهرة في حججها، واضحة في بيانها، تأخذ على النفوس أقطارها، وتلاحق القلوب في خطراتها وحركاتها، تبرهن على عقيدة البعث والنشور؛ من المولد والوفاة، والمحشر والحساب، والثواب والعقاب، إيضاحٌ عجيبٌ، وبسطٌ دقيقٌ لصورة المحيا والممات، وصورة البلى والقيام لرب العالمين.
تبتدئ السورة الكريمة بتعجب الكفار واستبعادهم للمعاد بعد الهلاك، وتلك سذاجة في التفكير، وقصور في النظر. إنهم ينكرون إعادة الخلق، وقد خلقوا أول مرة. ويأتي الرد عليهم سهلاً سريعاً يسيراً، فالله الذي خلقهم وأماتهم لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، يعلم أجزاءهم وأشلاءهم وذرَّاتهم، وكل ما تنتقصه الأرض منهم، وكل ذلك في كتاب حفيظ.
بسم الله الرحمن الرحيم: ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ [ق:1-5].
إن كل من كذب بالحق فهو في أمر مريج. السائر في غير درب الحق حاله مختلط، وأمره متخبِّط، تتقاذفه الأهواء، وتتخطفه الهواجس، وتمزقه الحيرة، وتقلقه الشكوك، يضطرب سعيه، وتتأرجح مواقفه ذات اليمين وذات الشمال، فقلبه في اضطراب، ونفسه في خلجات. وهذا هو حال الكثيرين من الفلاسفة المتقدمين، والماديين المتأخرين، والشيوعيين والعلمانيين؛ كل هؤلاء وأولئك في أمر مريج، وليس ثمة معالجة لهذه الشكوك، ولا طريق يوصل إلى الحق إلا طريق القرآن، إنه التدبر في خلق الإنسان ومخلوقات الأرض والسماء، والنبات والماء، وكل مبثوث من الجماد والأحياء، ينضم إلى ذلك النظر في أحوال الغابرين، وعاقبة المكذبين، ومصائر المتشككين أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ [ق:6-10].
ومن بعد ذلك تنتقل الآيات إلى طريق في البرهان آخر، ومشهد مألوف؛ ولكن كثيراً ما تغفل عنه النفوس، إنها لحظة الموت وسكراته، ويسبق ذلك بيان الرقابة الإلهية والإحاطة الربانية بهذا الإنسان، فهو في قبضة مولاه، النَّفَس معدود، والهاجس معلوم، واللفظ مكتوب، واللحظ محسوب. رقابة رهيبة لا يفوت فيها ظن، ولا يفلت منها وسواس.
يُذكر ذلك ـ أيها الإخوة ـ مصحوباً بوصف عجيب لحالة الموت والسكرات التي تمر على كل إنسان؛ براً كان أو فاجراً، مؤمناً كان أو كافراً. والموت هو أشد ما يحاول المخلوق البشري أن يروغ منه، أو يبعد شبحه عن خاطره ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]. ولكن الموت طالب مدرك، لا يبطئ ولا يخطئ ولا يتخلف له موعد، وها هي سكرات الموت قد جاءت بالحق الذي كان ينكره المنكرون، ولكن لا ينفع الاعتراف بعد فوات الأوان.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:16-19].
وبعد الموت وسكراته يأتي هول المحشر، ورهبة الحساب وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ