مكتبة الخطب
الخطب المكتوبة
ملخص الخطبة
إكمال الله عز وجل لدينه – لا يُقبل من العمل إلا ما وافق السنة – خطورة البدعة وأثرها في الخصومة والعداوة – طريقة أصحاب البدع في الاستدلال – اهتمام السلف بالاتباع وإنكارهم على المبتدعين
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، والزموا سنة نبيكم محمد تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون، لقد أكمل الله هذا الدين ورضيه وأتمَّ به نعمته . . كتاب الله، وسنة رسوله محمد لم يتركا في سبيل الهداية قولاً لقائل، ولم يدعا مجالاً لمتشرِّع، العاقد عليهما بكلتا يديه، مستمسك بالعروة الوثقى، ظافر بخيري الدنيا والأخرى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
روى الطبراني بإسناد صحيح عن النبي أنه قال: ((ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به، وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه))(1)[1].
كل عبادات المتعبدين يجب أن تكون محكمة بحكم الشرع في أمره ونهيه، جارية على نهجه، موافقة لطريقته، وما سوى ذلك فمردود على صاحبه: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))(2)[2]، ((ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))(3)[3]. بذلك صح الخبر عن الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة والسلام.
يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله في السنن الراشدة: سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستعمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تغيير فيها، ولا النظر في رأي يخالفها، من اقتدى بها فهو مهتدٍ، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.
أيها المؤمنون: إن غير سبيل المؤمنين نزعاتٌ وأهواءٌ، وضلالٌ عن الجادة، وشقٌ لعصا الطاعة، ومفارقةٌ للجماعة.
لقد رسم الشرع للعبادات والتكاليف طرقاً خاصة على وجوه خاصة زماناً ومكاناً، وهيئة وعدداً، وقصر الخلق عليها أمراً ونهياً، وإطلاقاً وتقييداً، ووعداً ووعيداً، وأخبر أن الخير فيها، والشر في تجاوزها وتعدِّيها وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
والرسل برحمة الله إلى خلقه مرسلون، ومن رام غير ذلك، وزعم أن ثمَّة طرقاً أُخَر، وعَبَدَ الله بمستحسنات العقول؛ فقد قدح في كمال هذا الدين، وخالف ما جاء به المصطفى الأمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وكأنه يستدرك على الشريعة نقائص.
يقول ابن الماجشون: سمعت مالكاً رحمه الله يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنةً؛ فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]. فما لم يكن يومئذٍ ديناً؛ فلا يكون اليوم ديناً.
الابتداع وتلمُّس المسالك والطرق معاندةٌ للشرع ومشاقةٌ له. وهو محض اتباع الهوى فليس ثمَّة إلا طريقان:
إما طريق الشرع، وإما طريق الهوى... يقول الله عزّ وجلَّ: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].
لقد حصرت الآية الكريمة الحكم في أمرين لا ثالث لهما: إما الاستجابة للمصطفى، وإما اتباع الهوى.
ولئن قصد صاحب البدعة ـ أيها الإخوة ـ ببدعته التقرب إلى الله والمبالغة في التعبد؛ فليعلم أن في هذا مداخل للشيطان عريضة في مسالك ملتوية ووسوسات مميلة، ولم يرضَ هذا المبتلى بما حدَّه الشارع وقدَّره؛ فخرج عن هذه الضوابط وتفلَّت من هذه القيود، وقد يصاحب ذلك عُجبٌ وحبٌّ في الظهور، مع ميول النفس بطبعها إلى قبول الجديد الذي لم تعهده قطعاً للسآمة والملل.
إن القيام بالتكاليف الشرعية فيه كُلفةٌ على النفس؛ لأن فيه مخالفةً للهوى، ومنازعةً للرغبات، فيثقلُ هذا على المبتدع، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها.
وكلُّ بدعة فإن للهوى فيها مدخلاً؛ لأنها راجعة إلى رغبات مخترعها ومبتدعها، ومتمشيةٌ مع هواه وميول نفسه ليست نابعةً من الشرع وأحكامه وأدلته.
ومن هنا فإنه قد يظهر من صاحب البدعة اجتهادٌ في العمل والعبادة، وما هذا إلا لخفة يجدها، ونشاطٍ يشعر به لما فيه من موافقة الهوى. ولقد كان الرهبان من النصارى ينقطعون في صوامعهم وأديرتهم على غير طريق الحق وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ [الغاشية:2، 3]. قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]. أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
وإنَّ قصداً في السنة خير من اجتهاد في بدعة.
وبسبب البدع وأهلها – أيها المؤمنون – يكثر الجدل بغير الحق، وبغير التي هي أحسن، وتحصل الخصومة في الدين. وقد قال قتادة رحمه الله في قوله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ [آل عمران:105]. قال: هم أهل البدع.
وقال بعض أهل العلم: كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة؛ فهي من مسائل الإسلام.
وكل مسألة حدثت أو طرأت؛ فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة ليست من أمر الدين في شيء.
وأصحاب البدع يتبعون المتشابه، ويتعسفون في التأويل حتى فسِّر قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]. بأنهم أهل البدع والأهواء.
وحينما قال أهل التحكيم لعليٍّ رضي الله عنه: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ [الأنعام:57]. قال: كلمةُ حقٍّ أريد بها باطل.
وقد تأكد في الأخبار النبوية أنه ما قامت بدعة إلا وأميتت سنة.
أخرج أحمد والبزار من حديث غضيف بن الحارث مرفوعاً: ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسكٌ بسنةٍ خير من إحداث بدعة))(4)[4].
وأخرج أحمد أيضاً والطبراني والبزار من حديث غضيف عن النبي أنه قال: ((ما من أمة ابتدعت بعد نبيها في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة))(5)[5]، فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن في ظهور البدع انطماساً للسنن، فالسعيد من عضَّ على السنة بالنواجذ، فأحياها ودعا إليها، فردَّ الله بها مبتدعاً، وهدى بها زائغاً وأنقذ بها حائراً.
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عدي بن أرطاة بشأن بعض القدرية: (أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه ، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت به سنة، فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارضَ لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصرٍ نافذٍ كفوا، وهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضلٍ كانوا فيه أحرى، إنهم هم السابقون، تكلَّموا بما يكفي، وصفوا ما يشفي، فما دونهم مقصِّر، وما فوقهم محسِّر، لقد قصَّر فيهم قوم فجفَوا، وتجاوز آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم)(6)[6].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
------------------------
-
الخطبة الثانية
الحمد لله، له الحمد في الأولى والآخرة، أحمده وأشكره على نعمه الباطنة والظاهرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، هدى بإذن ربه القلوب الحائرة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه نجوم الدجى والبدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اتبعوا رحمكم الله ولا تبتدعوا، فقد كفيتم. يقول حذيفة رضي الله عنه: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله فلا تعبَّدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً.
أخرج الدارمي بسند صحيح أن أبا موسى الأشعري قال لابن مسعود رضي الله عنهما جميعاً: (إني رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟؟ ثم أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال:فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، وَيْحَكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم؛ هؤلاء أصحابه متوافرون. وهذه ثيابه لم تبلَ، والذي نفسي بيده أنتم لعلى ملةٍ هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه؟)(7)[1].
وروي أن رجلاً قال لمالك بن أنس: من أين أُحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله . قال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وأي فتنة في ازدياد الخير؟؟ فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خُصصت بفضل لم يخص به رسول الله ؟!
فاتقوا الله – يرحمكم الله – وخذوا بالنهج الأول، وعليكم بالاتباع، وابتعدوا عن الابتداع.
__________
(1) صحيح، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: كتاب الجامع – باب القدر، حديث (20100)، وابن أبي شيبة: كتاب الزهد – باب ما ذكر عن نبينا في الزهد (8/129)، والطبراني في المعجم الكبير، حديث (1647)، قال الهيثمي في المجمع: ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، وهو ثقة (8/264).
(2) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الأقضية – باب نقض الأحكام الباطلة... حديث (1718).
(3) صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلح – باب إذا اصطلحوا على صلح جور... حديث (2697)، ومسلم: كتاب الأقضية – باب نقض الأحكام الباطلة... حديث (1718).
(4) ضعيف، مسند أحمد (4/105)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث (1/188)، قلت: وفيه أيضاً بقية بن الوليد مدلس وقد عنعن. وانظر صلاح المساجد من البدع والعوائد للقاسمي بتعليق الألباني (ص49)، ولم أجده في المطبوع من مسند البزار.
(5) ضعيف، لم أجده في المسند ولم يعزه الهيثمي له حيث قال في المجمع: رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو بكر بن أبي مريم، وهو منكر الحديث (1/188)، قلت: أخرجه الطبراني في الكبير (18/99)، والبزار (131)، وفي إسناده أيضاً محمد بن عبد الرحيم ضعفه الدارقطني وشريح بن العمان، قال أبو حاتم: شبه المجهول، انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/334) وفيض القدير (5/471)، إصلاح المساجد للقاسمي بتعليق الألباني (ص13)، وضعيف الجامع (5155).
(6) أخرجه أبو داود في: السنة، باب: لوزم السنة (4612).
(7) إسناده حسن، أخرجه الدارمي في المقدمة – باب في كراهية أخذ الرأي، حديث (204) وهو حسن الإسناد لأن فيه الحكم بن المبارك قال فيه ابن حجر، صدوق ربما وهم، التقريب (1466).