مكتبة الخطب
الخطب المكتوبة
ملخص الخطبة
1- القصاص يوم القيامة من الظالمين 2- حرمة المسلم والتحذير من أذيّته 3- أعظم الأذى قتل النفس المحرّمة 4- حرمة لعن المسلم وهجره وسِبابه 5- انتهاك حرمة أموال المسلمين 6- انتهاك حرمة أعراض المسلمين
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله ـ تعالى ـ واحذروا أذية المؤمنين، والإساءة إلى الناس أجمعين، إلا بحق ظاهر، قام عليه الدليل البين السالم من المعارض من الكتاب والسنة، والمأثور عن السلف الصالح من هذه الأمة؛ ليكون لكم برهاناً قاطعاً وحجة دافعة حين تختصمون عند ربكم، فتؤدى الحقوق إلى أهلها، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، وتؤخذ المظالم من الظالمين فترد إلى أهلها في يوم لا درهم فيه ولا دينار، بل إن كان للظالم عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، ((وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) [رواه البخاري][1].
وفي رواية عند مسلم: ((فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) [2].
وحينئذ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـٰحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]. يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَـٰحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِى تُـوِيهِ وَمَن فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:11-14].
عباد الله، إن أذية المؤمنين والناس أجمعين بغير حق من أشد المظالم، وأعظم المآثم التي توعد الله أهلها بالوعيد الأكيد، وتهددهم بالعذاب الشديد، في مثل قوله ـ سبحانه ـ: وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58]. وقوله ـ سبحانه ـ في الحديث القدسي الصحيح: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)) [3] الحديث، أي أعلمته أني محارب له. وما ثبت في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله ـ أي في أمانه وضمانه ـ فلا تسيئوا إليه بغير حق، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يكبه على وجهه في نار جهنم)) [4].
فالذي يؤذي المؤمنين خاصة والناس عامة بغير حق على خطر من غضب الله وانتقامه، وما توعد به الظالمين في الدنيا ويوم القيامة، حتى ولو كان المؤذي من أفاضل الناس وخيارهم؛ فقد ثبت في صحيح مسلم أن أبا سفيان مر – في حال كفره – على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها. فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي فأخبره، فقال : ((يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك)). فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا. يغفر الله لك يا أخي[5]. وثبت في الصحيحين أن النبي قال لمعاذ وقد بعثه إلى اليمن: ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) [6].
أيها المسلمون، وإيذاء المؤمنين وغيرهم من الناس بغير حق له صور منصوص عليها من القرآن وما أثر عن النبي من بيان، ويعظم الإيذاء ويتضاعف الإثم وتشتد العقوبة، كلما عظمت حرمة الشخص، أو الزمان ، أو المكان، أو المناسبة.
ولقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من غير وجه أن البني قال للناس في يوم النحر في أشرف زمان ومكان وجمع حضره ، وبعد أن قرر الناس على حرمة البلد والشهر واليوم: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم – وفي رواية قال: وأبشاركم – عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب)) الحديث[7].
فمن أعظم أذية المؤمنين والناس بغير حق قتلهم بغير حق، قال تعالى: مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32]. وقال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93].
وقال ـ تعالى ـ: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً [ النساء:29-30]. وصح عن النبي أنه قال: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) [رواه البخاري].
أيها المسلمون، وإذا كانت هذه حرمة دم المسلم فإن لعنه وهجره وتفسيقه ورميه بالكفر بغير حق فهو كقتله، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي قال: ((ولعن المؤمن كقتله))، وفي سنن أبي داود عن النبي قال: ((إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبوابها دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً فإذا لم يجد مساغا رجعت إلى الذي لُعن فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها))، وصح عن النبي أنه قال: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) [متفق عليه].
وفي البخاري عن أبي ذر أنه سمع رسول الله يقول: ((لا يرمي رجل رجلاً بالفسق والكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) وفي صحيح مسلم عنه : ((المتسابان ما قالا فعلى البادي منهما حتى يعتدي المظلوم))، وفي سنن أبي داود عن أبي خراش السلمي أنه سمع النبي يقول: ((من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه))، وفيه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)).
أيها المسلمون، أما أذية المسلمين بأخذ أموالهم فهي من أعظم الظلم وأكبر موجبات الإثم. قال : ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) وقال : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)). فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ فقال : ((وإن كان قضيباً من أراك)).
أيها المسلمون، ثبت في صحيح البخاري عن النبي قال: ((إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة))، وقال : ((إنكم تختصمون ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته – يعني أوضح وأبين – من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإني أقطع له قطعة من النار)) [متفق عليه].
وقال : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حرامًا)) [رواه البخاري].
وأخبر أن الدَّيْنَ لا يكفره القتل في سبيل الله وذلك لأنه من حقوق الناس.
فمن أخذ للناس شيئا بغير حق فهو ظلم جزاؤه النار، سواء أخذه من طريق القوة والقهر، أو عن طريق الخديعة والحيلة، أو عن طريق الرشوة، أو بواسطة اليمين الفاجرة، أو بحكم القاضي إذا أخطأ اجتهاده، والمدعي يعلم أنه مبطل، أو كان عن طريق ظلم الناس في الاعتداء على أبدانهم وانتهاك حرماتهم، فكل ذلك ظلم يكون الظالم به عرضة لعقوبة ظلمه في الدنيا والآخرة أو فيهما معا. فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الظلم ؛ فإنه حسرة وندامة وظلمات يوم القيامة.
ومن ذلك الاستطالة في أعراض الناس بالغيبة والبهت والنميمة والتعدي عليهم بالضرب والشتم وأنواع انتهاك الحرمات، فكل هذه من الظلم التي لا تكفرها الصلاة ولا الصدقة ولا الصوم، بل لا يغفر للظالم حتى يغفر له المظلوم، فإن ديوان الظلم من الدواوين التي لا يترك الله منها شيئا بل يؤاخذ بها إلا إذا تنازل عنها أصحابها، فكم من شخص يظن أنه كثير الحسنات ثم يأتي يوم القيامة مفلسا من بين البريات بسبب ما تحمل من الظلامات، جاء في الحديث عن النبي أنه قال: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) [8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري ح (2449).
[2] صحيح مسلم ح (2581).
[3] أخرجه البخاري ح (6502).
[4] صحيح مسلم ح (657).
[5] المصدر السابق ح (2504).
[6] صحيح البخاري ح (2448) ، صحيح مسلم ح (19).
[7] صحيح البخاري ح (67 ، 7078) ، صحيح مسلم ح (1679).
[8] أخرج
ه مسلم ح (2582).