شبكة شهادة الإسلام
الخطب المكتوبة
خطب مكتوبة لعلماء الإمة الإسلامية
قم بالدعوة إلى الله على بصيرة وتعلم إسلوب الخطابة
مع منبر شبكة شهادة الإسلام
خطب جمعه عيد الأضحى
ملخص الخطبة
1- الحكمة من خلق البشر. 2- التحذير من عقوبات الذنوب والمعاصي. 3- خطورة الغفلة والتهاون في السيئات. 4- أهمية تزكية النفس. 5- من أعمال يوم النحر.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جلّ وعلا في السر والعلن، وطاعته سبحانه في المنشط والمكره، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:20-25]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:27-29].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، مما لا شك فيه أن كل مسلم صغيرًا كان أو كبيرًا يعلم لماذا خلقه الله وأعطاه سمعًا وبصرًا وعقلاً، ولأي شيء أوجده على هذه الأرض وسخّر له ما فيها جميعًا، ولو سألت المسلمين جميعًا: لماذا خلقكم الله؟ لأجابوا بفم واحد وبلا تردّد: لقد خلقنا الله لعبادته وأوجدنا لطاعته، حيث قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ولكنك لو تفكرت بعد ذلك بعين البصر والبصيرة في مجتمعات المسلمين، نعم، لو تفكرت في مجتمعات المسلمين ـ ولا أقول: في غيرها ـ لوجدت الشرك الأكبر والكفر البواح في بعضها منتشرًا، ولألفيت الكبائر والموبقات فيها فاشية، دع عنك المعاصي الصغيرة ومحقرات الذنوب، فقد أصبحت عند كثير من الناس كالطعام والشراب، أو كالضرورة التي لا بدّ له منها، يأكلها ويشربها ليلاً ونهارًا، ويتنفسها ويسمعها سرًا وجهارًا، ويمتّع بها بصره بكرة وعشيًا. منكرات ومحدثات لم تكن معهودة، أصبحت في سُنَيَّات معدودة من المألوفات، شَبّ عليها الوليد، واستمرأها الشاب، وسكت عنها الكهل، ولم ينكرها الشيخ، مما ينذر بالخطر ويوحي بالعقوبة.
ولو أننا ـ إخوة الإيمان ـ تأملنا العقوبات التي عاقب الله بها الأمم السابقة من لدن آدم عليه السلام إلى آخر أمة عاقبها الله لوجدنا أنها جميعًا بسبب الذنوب والمعاصي، نعم أيها المسلمون، بسبب الذنوب والمعاصي، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، إنها القاعدة الربانية التي لا تتبدل والسنة الإلهية التي لا تتغير: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ، وما زالت تلك السنة ماضية إلى يوم القيامة، لا تتخلف عمن استحقها ولا تتأخر، وإلا فما الذي سلط بعض المسلمين شعوبًا وأفرادًا على بعض حتى أصبح التقاتل والتنافر بينهم شيئًا مألوفًا لا يُستَغرب؟! وما الذي أعاد الكَرَّة عليهم حتى اغتصب اليهود ديارهم وأموالهم ومقدساتهم وصارت قوى الكفر تهددهم ليل نهار وتملي عليهم أوامرها وتعليماتها فأصبحوا أذل أمة بعد أن كانوا أعز أمة؟! بل ما سبب نزع البركات وقلة الخيرات في الآونة الأخيرة؟! أليست هي الذنوب والمعاصي؟! بلى والله، إنها الذنوب والمعاصي، ولكن أكثر الناس في زماننا هذا لا يعلمون، حيث ظنوا إذ لم يروا العقوبة في الحال، ظنوا أنها لن تنالهم بعد ذلك، وأنهم قد عفي عنهم وغفر لهم، وما علموا أن العقوبة تأتي ولو بعد حين، وكأنهم لم يقرؤوا قول العزيز سبحانه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:45-47]، وقوله سبحانه: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
وهنا مسألة خطيرة ومصيبة كبيرة، تعدّ من أعظم المصائب وأفدحها، وأكبر العقوبات على الذنوب وأقساها، حين يصاب المرء ـ وهو لا يدري ولا يشعر ـ بانقلاب الموازين واختلال المقاييس واضطراب النظر وانعدام التمييز، حتى يعود القبيح في نظره حسنًا جميلاً، ويصبح الضارّ في تصوره نافعًا، ويُزَيَّن له سوء عمله فيستحسنه ويستمريه، ويصر عليه ويتمادى فيه، فلا يرى قبحه ولا يحسّ ضرره، ولا يخاف عاقبته ولا يفكر في سوء المصير، ثم هو بعد ذلك يظن أن من سلم من الفقر أو المرض أو حدوث الزلازل وثوران البراكين أو نزول المحن وانتشار الفيضانات وفتح الله عليه الدنيا وكثر ماله وولده وعاش في أمن ورفاهية، يظن أن هذا قد أحبه الله ورضي عنه وأكرمه، وما علم هذا المسكين الذي غرّته نفسه وخدعه الشيطان أنّ من أعظم ما يصاب به المرء أن يُزَيَّن له سوء عمله فيراه حسنًا، فلا يزال بمعاصي الله عاملاً، ولحدوده متعدّيًا، يقترف ما يسخطه، ويقع فيما يغضبه، حتى يعلو الران على قلبه، ويطمس على بصيرته، فلا يعرف بعد ذلك معروفًا ولا ينكر منكرًا، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8]، كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، في الحديث عنه أنه قال: ((تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشرِبها نُكِتَ فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكِت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضرّه فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مِرْبادًّا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرِب من هواه)).
نعم أيها الإخوة، إن أعظم ما يصاب به المرء أن يستمرئ المعاصي ويحتقرها، ويعمل بالذنوب ولا يخاف عاقبتها، فلا يزال الران يغطي قلبه ويغلّف فؤاده، وكلما زاد هذا الران كان الشيطان أقوى تمكّنًا من ذلكم الإنسان، وأشد تسلّطًا عليه، وأقوى تأثيرًا في قلبه، وأكثر تحريكًا له، أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83]، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36، 37].
والسر في ذلك ـ أيها المسلمون ـ أن الروح تُظْلِمُ بالذنوب، وتنجس بالمعاصي، وتكتسب بالخطايا والسيئات صفات قبيحة، تجعلها تتلاءم مع شياطين الإنس والجن وتألفهم، وفي مقابل ذلك تنفر غاية النفرة من الأرواح الطيبة وتبتعد عنها؛ لعدم الملاءمة والمجانسة، قال سبحانه: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً [الإسراء:84]، والمعنى أن كلاًّ يعمل على ما يناسبه، فمن كانت روحه طيبة زكية فإنها تعمل ما يتناسب مع طيبها وزكائها، من طاعة خالقها ومرضاته التي لا تزكو ولا تطيب إلا بها، ومن كانت روحه خبيثة نجسة فإنها لا تدله إلا على الشر والمعصية، ولا يناسبها إلا كل ما هو خبيث وقبيح، وفي الحديث عنه أنه قال: ((الأرواح جنود مُجَنَّدَة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)).
يقال هذا الكلام ـ أيها المؤمنون ـ ونحن نرى كثيرًا من الضلالات المهلكة والفتن المضلة قد أصبحت مألوفة عند كثير من الناس في هذا الزمان، حيث واقعوها غير مبالين ولا مستنكرين، وعايشوها غير مهتمين ولا وجلين، دخلت الشياطين كثيرًا من البيوت وعششت فيها، بل باضت وفرخت وكثر نتاجها، وامتلأت الجيوب بالأموال الحرام، وأترعت بطون بما لا يحل، فنبتت على ذلك أجساد كثيرة، وتغذت منه أخرى كانت قد نبتت من حلال، تَرْكٌ للصلوات واتباع للشهوات، وغناء في البيوت وفي السيارات، وموسيقى محرمة في الجوالات، لاحقت الناس حتى في أطهر البقاع وأشرفها، وأفسدت عليهم صلاتهم وأذهبت الخشوع، كلام قبيح تنطق به الألسن، وكذب على الآخرين تتفوه به الأفواه، افتراء على الناس وقذف لهم بما فيهم وما ليس فيهم، قطيعة للأرحام وهجر لذوي القربى، انتصار للنفس وهضم للآخرين، سموم تقذف بها بعض القنوات الإعلامية في بعض البلاد، وتركيز على تغريب المجتمعات المسلمة في أخلاقها ولباسها، وعمل على تشكيك الناس في اعتقادهم الحق، واعتراض على أحكام الله المحكمة، وسخرية بالله وآياته ورسوله، ودعوة للإباحية والانسلاخ من الدين، وتمكين للمنافقين من إعلان ما يحيك في صدورهم، ومجاهرة من المضلين بمقالات الكفر والتشكيك والردة عن الدين، كل ذلك باسم حرية الفكر والمناظرات المحايدة، ومعرفة الرأي الآخر والرأي المعاكس، ونحو ذلك من الإفك والكذب على عقول الرعاع المغفّلين، تنشره جرائد متجرّدة لحرب الحق، ومجلات مشتملة على ما يغضب الرب، ومع ذلك تشترى وتبذل الأموال للاشتراك فيها، وتنصب صناديق استقبالها على الأبواب وأسوار العمارات، تقليعات أفسدت الشباب، وموضات أهلكت النساء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والأدهى من ذلك والأمرّ أن من وقعوا في هذه الموبقات وواقعوا تلك السيئات لم يفكروا يومًا ما أنهم إنما وقعوا فيها وألفوها لهوانهم على ربهم سبحانه، قال الحسن رحمه الله: "هانوا على الله فعصوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم"، وصدق رحمه الله، فإن الله عز وجل إذا أحب عبدًا وعلا شأنه لديه دله على كل خير، وسيّره إلى كل بر، وجعله عبدًا ربّانيًّا موفّقًا، لا تنظر عينه إلا إلى ما يصلح قلبه، ولا تسمع أذنه إلا ما تزكو به نفسه، ولا تمشي رجله إلا إلى طاعة، ولا تبطش يده إلا فيما يرضي الله وينصر دينه ويعلي كلمته، في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: وما تقرب عبدي إلي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)).
فانظروا يا أصحاب الذنوب، ويا مدمني المعاصي، يا من قل حياؤكم من الكرام الكاتبين عن الشمال وعن اليمين، يا من تضحكون وأنتم لا تدرون ما الله صانع بكم، يا من تخافون من اطلاع الناس عليكم وأنتم على الذنوب ولا تضطرب أفئدتكم من نظر الله إليكم وأنتم عليها عاكفون، وهو سبحانه المطلع عليكم في كل حال، والله إن استمراركم على حالكم هذه لمن أعظم العقوبات التي أصبتم بها وأنتم لا تشعرون، إذ ليس كل عقوبة لا بد أن تكون ماثلة للعيان، ولا كل مقت من الله لا بد أن يكون ظاهرًا، بل إن هناك عقوبات تدب إلى المعاقبين بخفية، وتسري فيهم على غفلة، والله قد يملي للظالمِ ويمهله ليزداد من الإثم ويحيط به الظلم، ولكن كل ذلك لا يعني أنه قد أفلت من العقوبة، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178].
وانظروا ـ عافانا الله وإياكم ـ كيف عاقب الله بعض من لم يوفوا بعهده حيث قال: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ[التوبة:75، 76]، فماذا كانت العقوبة يا عباد الله؟! هل احترقت أموالهم؟! لا والله، هل قصمت أعمارهم؟! لا وربي، هل نزلت عليهم قارعة من السماء؟! كلا ثم كلا، هل ابتلعتهم الأرض؟! لم يحصل ذلك، إذًا فما العقوبة التي حلت بهم؟! استمع إلى العقوبة عافاك الله، قال سبحانه: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:77]، لقد كان الجزاء أن أعقبهم الله نفاقًا مستحكمًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه، وحكم عليهم بسوء الخاتمة وبئس المصير. وإنها لعقوبة بالغة الخطورة أن يملَى لك في الدنيا ويمد لك فيها، تقترف المعاصي وتواقع الذنوب، ثم يختم لك بخاتمة السوء عند موتك، وتوافى في موقف الحشر بكل جرائمك وموبقاتك، وتحاسب على ما اقترفت من الكبائر وتؤخذ بها.
ألا فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ لعلكم ترحمون، واحذروا المعاصي والذنوب لعلكم تنجون، وتوبوا إلى الله جميعًا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
الخطبة الثانيةأما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، تمسكوا بها وحققوها، وتخففوا من الدنيا وطلقوها، وزكوا أنفسكم وتخلصوا من الهوى، فقد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا الدين القويم ضياءً ونورًا لعباده، يخرجهم به من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ[البقرة:257]. ولا شك أن سعادة الإنسان في الحياة الدنيا وفوزه ونجاته في الأخرى، لا شك أن ذلك مرهون بتزكيته نفسه وتطهيره إياها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9، 10]. ومما لا مراء فيه ولا جدال أنه لن تزكو النفوس أو تصلح المجتمعات إلا بترك المعاصي والتخلص من الذنوب، ولن تنجو من كل خطر أو مخوف إلا بالعمل بطاعة الله والتقرب إليه سبحانه. أما إذا رأيت عقول الناس ـ كما هو شأنها اليوم ـ تؤثر الفاني على الباقي فاعلم أنها قد مسخت، ومتى رأيت قلوبهم قد ترحّل عنها حب الله والاستعداد للقائه وحل فيها حب المخلوق والرضا بالدنيا والطمأنينة بها وبما فيها من معاص وشهوات فاعلم أنها قد خسف بها، ومتى أقحطت العيون من البكاء من خشية الله فاعلم أن قحطها من قسوة القلوب، وإن أبعد القلوب من الله تعالى القلب القاسي.
ولذا كان لزامًا على كل عبد ناصح لنفسه يرجو النجاة والفوز يوم الحسرة أن يسعى لتزكية نفسه وتطهيرها، وأن يقوم على من تحت يده بالتربية الإسلامية الصحيحة، وأن يقسرهم على الحق قَسْرًا، وأن يأطرهم على اتباعه أَطْرًا، عليه أن يُلزِمهم بأداء الصلوات واجتناب الشهوات ومصاحبة الصالحين ومجالسة أهل الدين، وأن يمنع عنهم كل ما فيه إفساد لهم أو إبعاد عن طاعة الله، من أصحاب سوء أو أجهزة خبيثة، إنه يجب على كل أب وولي أمر ومسؤول السعي فيما يصلح رعيته، ويدفع عنهم السوء والمضار، قال : ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)).
إننا والله ـ أيها الآباء ـ لا نعجب من شابة مسكينة مُغرّر بها، ولا من شاب مراهق يخادعه أهل الباطل ويجتذبونه إليهم بما ينشرونه مما يوافق هوى النفوس، ولكن العجب الذي لا ينقضي أن تظلوا أنتم ـ أيها الأولياء ـ في غفلة مطبقة عما يدور حولكم، بل وفي بيوتكم وعقر دياركم، إذ في وسط تلك البيوت المحافظة وفي ساعات مختلفة من ليل أو نهار تُعرَض الرذيلة على مرأى من أبنائكم وبناتكم وأنتم غافلون، ويُقضَى على الحياء ويُنحر العفاف وأنتم راقدون، عبر أجهزة أنتم الذين اشتريتموها أو رضيتم بها، وتركتم الأبناء والبنات يعبثون بها دون رقيب ولا حسيب.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واتقين الله يا نساء المؤمنين، واحذروا المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إنكم في يوم عظيم سمّاه الله: يوم الحج الأكبر، تتلوه أيام معدودات عظيمة، فعظّموها بطاعة الله وذكره، وأكثروا من حمده وشكره، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، ضحّوا وطيبوا نفسًا بضحاياكم، واذكروا الله على ما رزقكم وأن هداكم، فإنه ما عُبِد الله في يوم النحر بمثل إراقة دم الأضاحي، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، واعلموا أن الذبح ممتد إلى غروب الشمس من ثالث أيام التشريق، وأنه يشرع في هذه الأيام التكبير المقيد في أدبار الصلوات المكتوبة، فكبروا وارفعوا به أصواتكم، وأحيوا سنة نبيكم، نضَّر الله وجوهكم.