خطبة الوداع خطب حجة الوداع
ملخص الخطبة
1- خطبة الرسول في حجة الوداع. 2- تقريرها لحقوق الإنسان. 3- مخالفة أحكام الجاهلية. 4- ذم الربا وبيان حرمته. 5- الوصية بالنساء. 6- مكر الكافرين بالمسلمين. 7- حرمة الاقتتال بين المسلمين.
الخطبة الأولى
أما بعد:
الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر ما لبس الحجاج ثياب الإحرام، وتجردوا من زينة الدنيا، فغدوا متساويين متآلفين يذكرون تجريد الموت لهم من ثيابهم مرة أخرى، إلا من مثل ثياب الإحرام، فاستعدوا لذلك بصالح الأعمال وكريم الفعال.
الله أكبر ما ارتفعت أصوات الحجيج بالتلبية، يعلنون بذلك استجابتهم لنداء ربهم واستعدادهم لتنفيذ أوامره وأوامر رسوله لأنهم جند الإسلام الميامين، وعباد الرحمن المطيعين.
الله أكبر ما طاف الطائفون حول البيت العتيق، تلهج ألسنتهم بالتسبيح والتمجيد والدعاء والاستغفار، يعلنون بطوافهم ارتباطهم الأبدي بهذا الدين. وأنه يدورون مع شرائعه حيث دارت، لا ينفكون عنها، ولا يبغون عنها حولاً.
الله أكبر ما قصد الحجاج أرض عرفات فاجتمعوا فيها، وذكرهم موقفهم هذا بموقف الحشر الأعظم فعاهدوا ربهم على إصلاح أنفسهم، وتغيير واقعهم، واستقامة سلوكهم.
الله أكبر ما رمى الحجاج الجمرات في أيام العيد، فكانت عهداً مع ربهم على رفض اغراءات الشيطان وتزيينه، وعدم العودة إلى الإصغاء لوسوسته وإضلاله.
الله أكبر لو علم المسلمون معنى العيد، وأنه احتفال بإتمام ركن من أركان الإسلام عظيم، لفرحوا بالطاعة، واستبشروا بالرحمة، وما جعلوه مناسبة للمعاصي والآثام والاختلاط وتبرج النساء فالفرحة للطائعين. أما العصاة، أما فاللائق بحالهم البكاء والحزن على ما فرطوا قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
الله أكبر لو انتهز المسلمون فرحة العيد، فزادوا من قوة روابطهم بصلة الأرحام، وزيارة الأقارب والجيران والأصدقاء، وتفقد الأرامل والآيتام والضعفاء، لكان مجتمعهم كما وصف الرسول : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[1].
الله أكبر لو جعل المسلمون العيد مناسبة كريمة لتصافي القلوب المتخاصمة، وغسل أدران الحقد والحسد والغل من نفوسهم المريضة، لصارت قلوبهم بيضاء نقية، ولعاشوا سعداء في الدنيا والآخرة. ألم يقل نبينا : ((دب إليكم داء الأمم قبلكم، البغضاء والحسد، والبغضاء هي الحالقة: ليس حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت لكم ذلك، أفشوا السلام بينكم)) [2].
أيها المسلمون: في مثل هذه الأيام، ومنذ أربعة عشر قرناً من الزمان,تحديداً في السنة العاشرة من الهجرة، حج نبينا الحبيب محمدحجة الوداع. والحقيقة أيها الأخوة أن الحديث عن رسول الله حبيب إلى كل قلب مسلم، مؤمن بالله تعالى. لماذا؟لأن له منة عظيمة على كل مسلم، وفضلاً كبيراً على كل مؤمن، إذ به أنقذنا الله تعالى من الكفر إلى الإيمان والإسلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبسنته عرفنا طاعة ربنا وعبادته، وعرفنا تفصيل سائر شعائر الإسلام لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
إن البرية يوم مبعث أحمـد نظـر الإله لها فبـدل حالهـا
بل كـرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
في هذه الحجة المباركة، وقف وخطب في المسلمين خطبة الوداع. إن هذه الخطبة التي ألقاها لا تستغرق إلا بضع دقائق، ولكنها أهم من خطب قد تستغرق ساعات. ولا عجب في ذلك فصاحبها عليه الصلاة والسلام، أفصح العرب، وأوتي جوامع الكلم، واختصرت له المعاني اختصاراً. فكان مما قاله : ((يا أيها الناس: اسمعوا قولي فإني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً))[3].
سبحان الله: وكأنه كان يشعر بدنو أجله ولقاء ربه، لهذا كان حديثه حديث مودع محب مخلص ناصح، يريد الخير لأمته من بعده.
ثم قال : ((أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا))[4].
نعم أعلنهاصريحة: نعم هذه هي حقوق الإنسان الحقيقية، وليست المزيفة أو المزدوجة، دم المسلم حرام، أي مسلم إلا بالحق وإلا فمن قتل مسلماً فقد قال الله فيه وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93].
ومال المسلم أيضاً حرام. أي مال مسلم، ولو كان شيئاً يسيراً فقد قال : ((من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق. فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قالوا: يا رسول الله: وإن كان شيئاً يسيراً قال: وإن كان قضيباً من أراك)).
فأين هم الذين يعتدون على المسلمين فيسرقونهم أو ينهونهم، أو حتى يستولون على أجورهم بغير حق، أين هم عن هذا التهديد والوعيد، وما الذي سيفعلونه عندما يفضحهم الله يوم القيامة.
ثم قال : ((يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى)).
نعم مرة أخرى، يتحدث عن حقوق الإنسان، وينبه إلى أن ميزان الحق الذي يوزن به الناس يوم القيامة هو ميزان التقوى، لا ميزان الحسب والنسب والجاه والمال والشهرة، فكل هذا لا قيمة له في الإسلام. والنعرات الجاهلية والتفاخر بها تعتبر من أقصر الطرق الموصلة إلى النار والعياذ بالله.
والحقيقة يوجد من الناس اليوم من لا يزال يتمسك بالفخر بالأحساب والأنساب، ومن أجلها يوالي ويعادي، ويحب ويكره، بل ويزوج ويتزوج من أجلها، وأمثال هؤلاء الذين يقدمون الجنس أو اللغة أو الدم على الدين، أمثال هؤلاء قال نبيه : ((إن الله قد أذهب عنكم عُبيّة الجاهلية وفخرها بالآباء (كبرها وفخرها)، فالناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب. ليدعن رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون (أحقر) على الله من الجعلان (حيوان الخنفساء) التي تدفع بأنفها النتن))[5] [البراز]. فهل يعتبر هؤلاء ويعرفوا أنه لا قيمة للإنسان إلا بالإسلام، وأنه من غير الإسلام لا يساوي شيئاً.
ثم قال : ((ألا كل شي من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ما أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله)).
والذي ينبه عليه هنا أن كل ما كانت الجاهلية تفخر به وتتمسك من تقاليد وعادات واستعباد للناس، والحكم بينهم بشرائع باطلة، كل ذلك أخبر أنه موضوع تحت قدميه وأنه قد بطل ومات وللأسف فهناك من الناس من يصر على أن يضع هذه الأغلال على رأسه وفوق عينه، فإذا اصطدمت عاداتهم وتقاليدهم مع الدين، قدموا عاداتهم وتقاليدهم وأخروا الدين. وإذا طلب منهم التحاكم إلى شرع الله، فيما بينهم فضلوا التحاكم إلى قوانينهم وأعرافهم، فهل هؤلاء مسلمون يقول الله فيهم وفي أمثالهم: وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلنَّاسِ لَفَـٰسِقُونَ أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:49-50].
وذكر رسول الله في خطبته الربا الذي حرمه بأمر من ربه، ويكفي في الربا أنه يضخم ثروات الأغنياء على حساب الفقراء. وهذا ما نراه الآن فالدول المسماة بالدول الكبرى استغلت الربا في استعباد الدول الفقيرة، وأسرها، حتى تبقى مأسورة لها على مدى الأيام، نعم إن الحضارة المادية التي تقود العالم اليوم، لا تعرف إلا الحاضر والربح العاجل أما قوله تعالى: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]. فهو حديث خرافة عندهم. لهذا فالاقتصاد العالمي القائم على الربا لن يعمر طويلاً بل سينهار والأيام ستظهر هذا الأمر.
ونفس الكلام على مستوى الأفراد، فالبعض يتعامل بالربا ولا يبالي. هل سأل عن رأي الشرع في ذلك، هل عرف حكم الإسلام في تعاملاته المالية، قليل من يفعل هذا رغم أن الأمر لا يحتاج إلى توضيح أكثر من قوله : ((إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً أدناه كالذي يأتي أمه في الإسلام))[6] وقوله: ((درهم ربا يأكله الرجل أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية))[7] هل هناك ما هو أكثر من هذا الترهيب والوعيد، ولكن فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلاْبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ [الحج:46].
ثم قال : ((ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم (أسيرات) ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فادعو الله خيرا واستوصوا بهن)). الله أكبر: انظروا إلى تكريم الرسول للمرأة، بعد أن كانت لا قيمة لها في الجاهلية، بل كانت رمزاً للشر والخزي والعار، فأكرمها الإسلام بنتاً وأختاً وزوجة وأماً. فأكرمها بنتاً وأختاً فقال : ((ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا كن له سداً من النار))[8] وعنها زوجة يقول : ((خياركم خيركم لأهله)) ويقول: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))[9] وعنها أماً قال : ((إن الله يوصيكم بأمهاتكم)) ثلاث مرات[10]، وقال لرجل أتى للجهاد وترك أمه قال له: ((الزم رجلها، فثم الجنة)) وقال لآخر: ((الزمها (أي أمك) فإن الجنة تحت أقدامها))[11].
وليس هذا فقط، بل إن المرأة في ظل الإسلام كالرجل في الثواب والعقاب؟ومطلق المسؤولية والجزاء. وجعل لها حق البيع والشراء والتملك، بل وجعلت النفقة والكفالة على أبيها أو ولي أمرها إن كانت بكراً أو ثيباً، وعلى زوجها إن كانت زوجة، حتى ولو كانت من الثريات، وغير ذلك كثير.
لكن الكثير يتجاهلون هذه الوصايا العظيمة ولا يعملون بها. بل إن بعض الرجال لا يزال يتعامل مع النساء بعقلية الجاهلين القدامى، لا ترى المرأة منه إلا الظلم والإهانة والتحقير لها.
والمصيبة العظمى أن البعض من النساء يعتقدن أن هذا يحث لهن بسبب الدين، وهذا والله افتراء عظيم، فما من دين أنصف المرأة كما أنصفها الإسلام.
فلقد عهدنا المرأة أيام كان الإسلام مزدهراً. عهدناها فقيهة محدثة كأم المؤمنين عائشة، ومربية فاضلة كأسماء، وشاعرة مجيدة كالخنساء. ومجاهدة تلطم وجه الشرك وتصدع أعوان البغي كخولة. هكذا كانت المرأة المسلمة وما نزلت قيمتها وما أهبت وما ضيعت حقوقها إلا عندما قيل لها: تحرري وتطوري: إذا أردت الحضارة فاتركي الدين، واختلطي بالرجال وارفعي الحجاب، فضاعت المرأة المسلمة في كثير من بلاد المسلمين، فاختلطت وغنت ورقصت وتبرجت فصارت طعماً للذئاب الجائعة، والكلاب المفترسة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الله أكبر الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً - عباد الله. أقول ما تسمعون. واستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين.
[1] صحيح، أخرجه البخاري : كتاب الأدب – باب رحمة الناس والبهائم، حديث (6011)، ومسلم : كتاب البر والصلة والآداب – باب تراجم المؤمنين... حديث (2586).
[2] حسن، أخرجه أحمد (1648)، والترمذي : كتاب صفة القيامة – باب حدثنا سفيان بن ركيع ... حديث (2510)، والبزار (2232)، وذكره الضياء في المختارة (3/81)، وقال المنذري والهيثمي : رواه البزار بإسناد جيد الترغيب (3/285)، ومجمع الزوائد (8/30)، وحسّنه الألباني، صحيح الترمذي (2038).
[3] صحيح، وانظر ألفاظ خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : صحيح البخاري (1714، 4406، 5550)، صحيح مسلم (1218، 1679)، مسند أحمد (3/80)، (4/76)، (5/37)، سنن الترمذي (3087)، سنن ابن ماجه (3058).
[4] صحيح، أخرجه مسلم : كتاب الإيمان – باب وعيد من اقتطع من مسلم ... حديث (137).
[5] حسن، أخرجه أحمد (2/361)، والترمذي : كتاب التفسير – باب سورة الحجرات، حديث (3270)، وقال : حديث غريب. وأبو داود : كتاب الأدب – باب في التفاخر بالأحساب، حديث (5116). وصححه ابن حبان (3828). وحسن إسناده المنذري. الترغيب (3/376)، وحسنه الألباني، صحيح سنن أبي داود (4269).
[6] صحيح، أخرجه الطبراني في الأوسط (7151)، قال المنذري : رواه البيهقي بإسناد لا بأس به. الترغيب (3/5)، وصححه الألباني في الصحيحة (1871).
[7] صحيح، أخرجه أحمد (5/225) موقوفاً، والطبراني في الأوسط (2682) والدراقطني (3/16)، قال الهيثمي : رجال أحمد رجال الصحيح، الجمع (4/117)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1033).
[8] صحيح، أخرجه أحمد (3/142)، والترمذي : كتاب البر والصلة – باب ما جاء في النفقة ... (1912)، وصححه ابن حبان (446). قال الهيثمي في المجمع : رواه الطبراني في الأوسط بإسنادين ورجال أحدهما، رجال الصحيح (8/157)، وصححه الألباني في الصحيحة (294).
[9] صحيح، أخرجه الترمذي : كتاب النكاح – باب حسن المعاشرة (1977)، وابن حبان : كتاب النكاح – باب معاشرة الزوجين – ذكر استحباب الاقتداء بالمصطفى ... حديث (4177). قال البوصيري في زوائد ابن ماجه : هذا إسناد ضعيف... ولكنه ذكر شواهد له (2/117، 118)، وصححه الألباني بشواهده. في السلسلة الصحيحة (285).
[10] صحيح، أخرجه أحمد (4/131) والبخاري في الأدب المفرد (60) وابن ماجه . كتاب الأدب – باب بر الوالدين، حديث (3661)، والبيهقي في الكبرى (4/179)، وصحح إسناده البوصيري في الزوائد (4/99)، وذكره الحافظ في الفتح (10/402)، وحسن إسناده في التلخيص الحبير (4/10)، وصححه الألباني في الصحيحة (1666).
[11] صحيح، أخرجه أحمد (3/429) و النسائي : كتاب الجهاد – باب الرخصة في التخلف... حديث (3104)، وابن ماجه: كتاب الجهاد – باب الرجل يغز وله أبواب، حديث (3781) . وذكره الضياء في المختارة (8/151) وصححه الحاكم (2/104)، وذكره الحافظ في الفتح (6/140)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2908).الخطبة الثانية ... لك الحمد من قبل ومن بعد وأشهد أن لا إله إلا الله. صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده. وصلاة وسلاماً على رسولنا الكريم، كلما أشرق صبح يوم جديد، وكلما أقبل على المسلمين عيد.
أيها المسلمون: لقد جاءنا العيد ومر أكثر من عام وفي كل بلد من بلاد المسلمين جرح ينزف ولا ندري عن أي جرح نتحدث. عن البوسنة والهرسك، أم عن فلسطين، أم عن كشمير، أم عن وعن وعن، أم نتحدث عن موقف الكفر وأهله في التعامل مع المسلمين.
انظروا وقارنوا قارنوا بين موقف الإسلام من أهل الكتاب، وموقف أهل الكتاب من المسلمين، انظروا إلى عدل الإسلام في قوله تعالى: لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. انظروا إلى أمير المؤمنين عمر يوم جلد ابن عمرو بن العاص والي مصر لأنه ضرب قبطياً مصرياً ظلماً، وقال قولته الخالدة: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) انظروا وقارنوا هذه المواقف بما يفعله اليهود في فلسطين، والنصارى بالمسلمين في جميع أنحاء الأرض، وخاصة في البوسنة والهرسك والتي تشهد مذبحة للمسلمين، لم تحدث من قبل في عصرنا الحاضر: هل هذا هو التسامح الذي يدعونه؟ أهذه هي الحضارة؟ أهذه هي المدنية؟ أهذه هي حقوق الإنسان التي يزعمونها؟
ولكن لماذا نستغرب ونتعجب: لقد أخبرنا الله عن حقائقهم وما يحملونه في صدورهم لنا ولكن مشكلتنا نحن المسلمين أننا لا نسمع ولا نعقل ولا نفهم، وإلا فقد قال الله عنهم: مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ [البقرة:105]. وقال: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا [البقرة:109]. وقال: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]. وقال: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً[التوبة:8]. وقال: لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:10]. ولكن المسلمين نسوا أعداءهم الأصليين، نسوا كل ما يتعرضون له على أيديهم وأحبوهم بل وصاروا يقعون في بعضهم البعض ويقاتلون بعضهم البعض، والكفار يتفرجون وهم فرحون بما يحدث للمسلمين. لهذا كان مما قالهمحذراً في حجة الوداع: ((إنكم ستلقون ربكم فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض)) انظروا إليه وهو قلق على مستقبل أمته، ويريد الخير لها، ويحذرها من الشر ولكن هل عملت أمته بالوصية. للأسف الشديد؟ لا، وكما قلنا فهم الآن يقاتلون بعضهم بعضاً وبكل شراسة، بل إنهم لم يقاتلوا أعداء الإسلام من يهود وغيرهم، لم يقاتلوهم بمثل هذه القوة والشراسة والغلظة، وصار إهدار دم الإنسان المسلم من أسهل الأمور في كثير من بلاد المسلمين إلا من رحم الله مع أن النبي يقول: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم))[1] ويقول: ((قتال المسلم أخاه كفر، وسبابه فسوق))[2] هذا في قتل المسلم لأسباب دنيوية، فكيف إذا كان قتله بسبب تمسكه بدينه وعقيدته ومطالبته بتحكيم شرع الله، لاشك بأن الأمر أخطر وأعظم.
ثم يختم حديثه بقوله: ((فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن تمسكتم به، كتاب الله وسنة رسوله ))[3] سبحان الله إنه يوصيهم وهو يودعهم، وهم يواجهون الحياة بعده، فيقول لهم: لستم وحدكم، معكم كتاب الله وسنتي، ميراث لا يعدله ميراث، فاحذروا التهاون به، فمن فعل ذلك فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
ثم وضع العلاج للناس من جميع المشاكل التي قد تعترض حياتهم، إنه في مصدرين لا ثالث لهما. ضمن لهم عند الاعتصام بهما الأمان من كل شقاء وضلال، وهما: القرآن والسنة، وهو يتقدم بهذا التعهد والضمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده.
إن صلاحية التمسك بهذين الدليلين ليس مقصوراً على عصر دون عصر، أو جيل دون جيل، بل هما صالحان لكل زمان ومكان. لهذا نحن نرى كثيراً من المسلمين اليوم وبسبب تفريطهم في اتباع الكتاب والسنة، يعانون من الهزائم والتخلف والإحباط. فهم لا يخرجون من فشل إلا دخلوا في فشل آخر وسيستمرون في فشلهم هذا حتى يعودوا إلى الله عودة صادقة حقيقية ويعملوا بالكتاب والسنة كما أمر الله.
وبعد أن انتهى من الخطبة العظيمة نادى في الناس قائلاً: ((إنكم ستسألون عني فما أنتم قائلون؟)) فارتفعت الأصوات من حوله تصرخ وتقول: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فرفع نظره إلى السماء وأشار بسبابته إلى السماء ثم إلى الناس قائلاً: ((اللهم أشهد، اللهم أشهد، اللهم أشهد)) [4].
ونحن نقول اليوم نشهدك يا الله بأن رسولك ونبيك محمد قد بلغ وأدى ونصح، فجزاه الله خير ما يجزي نبياً عن أمته.
وإذا كان قد قضى حياته بطلاً مجاهداً صابراً مرابطاً، وترك بعده أصحابه الأبطال والذين قدموا أرواحهم وأموالهم رخيصة في سبيل الله وفي سبيل نصرة هذا الدين، وفي سبيل أن يصل إلينا نقياً صافياً. فما الذي فعلناه نحن؟ هل عرفنا قيمة ديننا؟ هل عملنا له؟ هل دعونا لله؟ ماذا قدمنا في سبيله؟ هل جاهدنا بأموالنا وأنفسنا؟ هل. . وهل؟
أسئلة كثيرة تدور في عقولنا، ولكن لا نملك إجابة عليها، بسبب تقاعسنا وكسلنا عن نصرة ديننا. فهل يدفعنا ما سمعناه سابقاً على أن نغير من أحوالنا إلى ما يحبه الله ويرضاه، نرجو ذلك ونتمناه، وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه. نسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين جميعاً وأن يوقظنا من سكرة الدنيا ونشوة الشهوات والأهواء، وأن يتغمدنا بلطفه وجوده ورحمته إنه على كل شيء قدير.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
[1] صحيح، أخرجه الترمذي : كتاب الديات – باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن، حديث (1395)، والنسائي : كتاب تحريم الدم – باب تعظيم الدم (3987)، وابن ماجه : كتاب الريان – باب التغليظ في قتل مسلم ظلماً (2619)، قال البوصيري في الزوائد: إسناد صحيح، رجاله ثقات (3/122)، وحسن المنذري إسناد ابن ماجه، الترغيب (3/201)، ورمز له السيوطي بالصحة، الجامع الصغير (7236)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4954).
[2] صحيح، أخرجه البخاري : كتاب الإيمان – باب خوف المؤمن من حديث (48)، ومسلم : كتاب الإيمان – باب بيان قول النبي : ((سباب المسلم ..)) حديث (64).
[3] أخرجه المروزي في السنة (68) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ويشهد له حديث جابر عند مسلم في : الحج، باب : حجة النبي (1218).
[4] صحيح، أخرجه مسلم في الحج، باب : حجة النبي (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، بنحوه.