خطب جمعه مكتوبه (إستعد من الآن )
الخطيب:::::::::عادل بن أحمد باناعمة
أما بعد: أرأيتم قط طالبًا مُجدًا يقتحم لجة الامتحانات دون استعداد مسبق؟! أرأيتم قط تاجرًا ناجحًا يقبل عليه موسم حي دون أن يتهيأ له من قبل؟! أرأيتم قط مزارعًا يذر البذر ويرجو الحصاد؟! إنها سنة الله أن لا يدرك إلا المُجِدّ، ولا يحصل إلا الباذل.
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدًا *** ندمت على التفريط في زمن البذرِ
وإذا كان الإنسان حريصًا أن يستعد لأمور دنياه ويتهيأ لها: فيذاكر الطالب، ويحتشد التاجر، ويبذر الزارع، إذا كان ذلك كذلك أفلا يستعد المسلم للطاعة ويتهيأ للعبادة؟!
ها نحن الآن على أبواب رمضان، لا تفصلنا عنه إلا أيام معدودة تمر مر البرق، وتنقضي انقضاء الحلم، فمن منا فكر في الاستعداد له، والتهيؤ لاستقباله؟! أتدرون ما مشكلتنا أيها الأحباب؟!
مشكلتنا أننا في كل عام يأتينا رمضان ونحن غافلون، فنبدأ في الطاعة والعبادة من الصفر، ثم نرقى شيئًا فشيئًا فلا نكاد نجد طعم العبادة وحلاوة الطاعة إلا وقد انقضى رمضان، وانطوت صحائفه بما فيها من إحسان المحسن وإساءة المسيء! فنندم ونتحسر ونتألم، ونقول: نعوض في العام القادم، ويأتي العام القادم فلا يكون أحسن حالاً من سابقه، وهكذا حتى يحق الحق ويغادر الإنسان دنياه وهو كما هو!!! فإلى الله المشتكى.
ولو أننا تذكرنا ما كان يقال عن أسلافنا، وأنهم كانوا يستقبلون رمضان قبل مجيئه بستة أشهر، لو تذكرنا هذا لعرفنا لماذا كانوا يجدون لرمضان طعمًا لا نجده نحن، أو لا يجده على الأقل كثير منّا. القضية إذًا قضية الاستعداد لهذا الشهر بالعبادة والطاعة والبر. القضية إذًا قضية اغتنام أوقات شهر شعبان المبارك حتى لا يأتي رمضان إلا وقد ارتقى الإنسان منازل عالية من الطاعة والعبادة.
إننا يجب أن نفهم جيدًا أن رمضان ليس فرصة لتعويد النفس على الطاعة والعبادة، ليس هو مجالاً للاستعداد، هو كلحظات الاختبار: إما أن تنجح فيه أو تفشل، وليست دقائقه الغالية الثمينة بمحتملة للكسل حينًا والنشاط حينًا، ينبغي أن تجعل هذا التدريب وهذا التذبذب بين الطاعة والفتور في شعبان، أما رمضان فيجب أن يكون عبادة خالصة، وبرًا خالصًا، وإنابة كاملة، إنه شهر الجنات -أيها الأخ- فهل ستضيع أيامه في البحث عن تذكرة الدخول فلا تحصل عليها إلا وقد غلقت الأبواب؟! هذا ما ينبغي أن نعيه جيدًا.
ولقد كان الواجب أن يكون الاستعداد سابقًا لهذا الوقت، ولكن لا بأس، لا تزال هناك فرصة:
مضى رجب وما أحسنت فيـه *** وهذا شهر شعبـان المبـاركْ
فيا من ضـيع الأوقات جهـلاً *** بقيمتها أفق واحـذر بـواركْ
تدارك ما استطعت من الخطايا *** فخير ذوي الفضائل من تداركْ
تدارك -أيها الأخ- قبل أن لا يكون تدارك.
أتدري لم كان للعبادة في شعبان فضل على غيرها؟! لأنه مقدمة لرمضان، فاكتسب فضلاً من هذه الجهة، والعلماء يقولون: إن لكل عبادة مفروضة مقدمة ومؤخرة، فالتقدمة يستعد بها لها، والمؤخرة يرقع بها ما حصل في العبادة من خروق.
ثم إن شهر شعبان شهر تكثر فيه الغفلة؛ وذلك لبعده عن مواسم الخيرات، إذ إن آخر عهد الناس بأزمنة البركة عشر المحرم، فيكون الذي يعبد الله في زمن الغفلة هذا أعظم أجرًا، وفي الحديث الذي رواه أسامة بن زيد وأخرجه أحمد والنسائي [2317] بسند حسن [الترغيب:1511]، يقول -صلى الله عليه وسلم- عن شعبان: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".
والنصوص الدالة على فضيلة الطاعة زمن الغفلة كثيرة متوافرة، وحسبنا قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله، فرجل أتى قومًا فسألهم بالله -عز وجل- ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم، فمنعوه، فتخلفه رجل بأعقابهم، فأعطاه سرًّا لا يعلم بعطيته إلا الله -عز وجل- والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به، نزلوا فوضعوا رؤوسهم، فقام يتملقني ويتلو آياتي، ورجل كان في سرية، فلقوا العدو فهزموا، فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له...". [النسائي:2570].
ولهذا المعنى كان يريد النبي أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل، وإنما علل ذلك لخشية المشقة، ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم: "ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم". [البخاري: باب النوم قبل العشاء]، [وانظر: لطائف: 282].
وكان بعض السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين ويقولون: هي ساعة غفلة. [لطائف: 282].
وفي إحياء الوقت المغفول عنه فوائد: منها أنه يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، ومنها أنه أشق على النفوس لقلة الموافقين، ومنها أن المنفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس، فكأنه يحميهم ويدفع عنهم. [لطائف: 283-287].
وهكذا -أيها الإخوة- يكون العابد المجد في هذا الشهر قد حاز فضيلتين: حسن الاستعداد لرمضان، والذكر زمن الغفلة.
ولعلك أن تقول: وما عساي فاعلاً؟! فأقول لك: اعلم أن كل عبادة متأكدة في رمضان فإنه يحسن بك أن تكثر منها في شعبان استعدادًا وتهيؤًا، ومن هذه العبادات:
1ـ الصوم: وهو من أعظم ما يفعل في هذا الشهر. قال ابن رجب -رحمه الله-: قيل في صوم شعبان: إن صيامه كالتمرين على صيام رمضان؛ لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. [لطائف المعارف: 289].
تقول عائشة -رضي الله عنها-: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر منه صيامًا في شعبان. [البخاري: 1969].
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرًا أكثر من شعبان؛ فإنه كان يصوم شعبان كله وكان يقول: "خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا". [البخاري: 1970]. قال ابن المبارك: هو جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال: صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليله أجمع، ولعله تعشى واشتغل ببعض أمره. [الترمذي حديث رقم:736].
ويؤيد قول ابن المبارك رواية أخرى للحديث عند مسلم تقول فيها عائشة -رضي الله عنها-: كان يصوم حتى نقول: قد صام، ويفطر حتى نقول: قد أفطر، ولم أره صائمًا من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلاً. [مسلم:1156].
وتقول عائشة -رضي الله عنها-: كان أحب الشهور إليه أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان. [ابن خزيمة ـ صحيح الجامع:4628].
وعلى هذا يسن صيام هذا الشهر، ويتأكد صوم الأيام المستحبة في غيره كالاثنين والخميس والأيام البيض، ويستحب أن يعم بالصيام أول الشهر وأوسطه وآخره.
وأما حديث أبي هريرة: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان". [رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه والدارمي وصححه الألباني في صحيح الجامع:397]. فيجاب عنه من ثلاثة أوجه:
الأول: أن جهابذة من أهل الفن قد ضعفوا هذا الحديث كالإمام أحمد وابن مهدي وابن معين وابن المديني وأبي زرعة والأثرم وعدوه من الأحاديث المنكرة، بل قال أحمد: لم يرو العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه أنكر من هذا الحديث، وقال الأثرم: الأحاديث كلها تخالفه، وقال ابن رجب: أكثر العلماء على أنه لا يعمل بهذا الحديث.
والثاني: أنه منسوخ. ذكره الطحاوي. [لطائف:292].
والثالث: أن يجمع بين الأحاديث بأن يقال: إن أحاديث الصوم تدل على صوم نصفه الثاني مع ما قبله، وعلى الصوم المعتاد في النصف الثاني، وحديث العلاء يدل على المنع من تعمد الصوم بعد النصف لا العادة ولا مضافًا إلى ما قبله. [انظر: عون المعبود (6/461)، حاشية ابن القيم].
قال الترمذي -رحمه الله-: ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن يكون الرجل مفطرًا، فإذا بقي من شعبان شيء أخذ في الصوم لحال شهر رمضان. [انظر كلامه عند الحديث رقم: 738].
لكن على المسلم أن لا يتعمد صيام آخر يومين من شعبان ما لم تكن عادة؛ لأن تخصيصهما قد يوهم الزيادة في رمضان، وفي الصحيحين: "لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صومًا فليصم".
وللنهي عن تقدم صوم رمضان بصوم يوم أو يومين عدة حكم؛ منها: الاحتياط لرمضان؛ لئلا يزاد فيه ما ليس منه، ومنها الفصل بين صيام الفرض والنفل؛ لأن جنس الفصل بين النوافل والفرائض مشروع، ولهذا نهى النبي أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام، ولهذا شرع للمصلي أن يغير مكانه إذا قام للنفل. ومنها التقوي على صيام رمضان؛ فإن مواصلة الصوم قد تضعف عن صيام الفرض. [لطائف:307-309].
ومن رحمة الله بنا أننا في زمن الشتاء الذي هو ربيع المؤمن، وفي الحديث الحسن عن عامر بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" [صحيح الجامع:3868]. قال بعض السلف: الشتاء ربيع المؤمن؛ قصر نهاره فصامه، وطال ليله فقامه.
الخطبة الثانية: أما بعد: ومن الأعمال التي يمكن للمؤمن أن يعملها في شعبان:
2ـ قراءة القرآن: لأن القرآن نزل وعورض في رمضان، وشعبان تقدمة له.
قال أنس: كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف فقرؤوها، وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية لضعيفهم على الصوم. وقال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القرآن. وكان قيس بن عمر الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وأكب على قراءة القرآن. وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء. [انظر في قراءة القرآن لطائف:290].
3ـ ذكر الله تعالى.
4ـ قيام الليل.
5ـ الصدقة.
أما ليلة النصف من شعبان فقد وردت فيها عدة أحاديث؛ منها:
1ـ "يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن". رواه ابن حبان في صحيحه، وابن أبي عاصم في السنة، وقال الألباني في الصحيحة (3/135): حديث صحيح روي عن جماعة من الصحابة من طرق مختلفة يشد بعضها بعضًا. وصححه بعضهم بشواهده، وضعفه البعض.
2ـ ومنها: "إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه، فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه". [البيهقي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع:771].
وكان لبعض السلف اجتهاد في إحياء هذه الليلة، فكان خالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، بل كانوا يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المساجد ليلتهم تلك، وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية. [لطائف:295].
وذهب طائفة من أهل الشام إلى أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي -رحمه الله-، وقد أنكر ذلك عليهم أكثر علماء الحجاز، ومنهم عطاء وابن أبي مليكة، وقال فقهاء المدينة وعلى رأسهم أصحاب مالك: هذا كله بدعة.
وهذه الفضيلة لليلة النصف -إن صحت- لا تدل على مشروعية تخصيص هذه الليلة بعبادة زائدة؛ بدليل يوم الجمعة، فقد ثبت فضله، ولا يشرع تخصيصه بعبادة غير العبادات التي دلت عليها النصوص، قال أبو بكر الطرطوشي: ما أدركنا أحدًا من مشايخنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول ولا يرون لها فضلاً على ما سواها. وقيل لابن أبي مليكة: إن زيادًا النميري يقول: إن أجر النصف من شعبان كأجر ليلة القدر! فقال: لو سمعته وبيدي عصا لضربته!!
وليس يفوتني أن أشير في آخر الحديث إلى ظاهرة عجيبة تشيع في مجتمعاتنا، وهي انطلاق الشباب في شهر شعبان في لهوهم وغفلتهم من مباح ومحرم بحجة أنهم ينفسون عن رغباتهم وشهواتهم في شعبان احترامًا لشهر رمضان! وهم يسمون هذه الظاهرة (الشعبنة)! وأحب أن يعلم الإخوة أن هذه الشعبنة موجودة من قديم، وقد ذم الإمام ابن رجب أصحابها في كتابه البارع لطائف المعارف ص310؛ حيث قال: ولربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام! وذكروا أن أصل ذلك متلقى من النصارى؛ فإنهم يفعلونه عند قرب صيامهم، وهذا كله خطأ وجهل ممن ظنه، وربما لم يقتصر بعضهم على اغتنام الشهوات المباحة، بل يتعدى إلى المحرمات، وهذا هو الخسران المبين. وقد أنشد بعضهم:
إذا العشرون من شعبان ولت *** فواصـل شـرب ليلك بالنهار
ولا تشـرب بأقداح صغـار *** فإن الوقت ضاق عن الصغار
قال -رحمه الله-: ومن كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه، وله نصيب من قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَلانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَـافِلُونَ) [الأعراف:179]. اهـ.
وبعد:
أيها الأخ العزيز: أما زلت مصرًّا على تكرار مأساة كل عام؟! أما زلت مصرًّا على أن تقابل رمضان وأنت في غفلتك؟! أما تحب أن تذوق طعم الخشوع والخضوع وحلاوة الإيمان منذ أول ليلة؟!
إني أعظ نفسي وإياك، وأقول لك: الله الله في هذه الأيام أن تتفلت من بين يديك، أعلم أنك قد تكون مشغولاً بالدراسة أو غيرها، ولكن ذلك لا يمنع أن تمحض جزءًا من وقتك للطاعة والعبادة والذكر. والله يرعاك.