خطب مكتوبه حول (أسماء وصفات الله)
الخطيب:::::::::عبد الرحمن بن محمد عثمان الغامدي
الخطبة الأولى
ثم أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن العلم بالله سبحانه والتعرف على أسمائه وصفاته وعبادته بمقتضاها بعد معرفة معناها هو خلاصة الدعوة النبوية، وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف:180].
فتعرفوا ـ عباد الله ـ على الله سبحانه بمعرفة أسمائه وصفاته، وما تقتضيها تلكم الأسماء والصفات من المعاني، قال ابن القيم رحمه الله: "فإن أعز أنواع المعارف معرفة الرب سبحانه بالجمال، وأتمُّ الناس معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله سبحانه، ليس كمثله شيء في سائر صفاته، ويكفي في جماله أنه له العزة جميعا، والقوة جميعا، والجود كله، والإحسان كله، والعلم كله، والفضل كله، ولنور وجهه أشرقت الظلمات، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة))، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه)، فهو سبحانه نور السماوات والأرض، ويوم القيامة إذا جاء لفصل القضاء تشرق الأرض بنوره.
ومن أسمائه سبحانه الجميل، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جميل يحب الجمال))، وجماله سبحانه: جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء. فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات الكمال، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة، وأما جمال الذات، وما هو عليه، فأمر لا يدركه سواه، ولا يعلمه غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرف بها إلى من أكرمه من عباده، فإن ذلك الجمال مصونٌ عن الأغيار، محجوب بستر الرداء والإزار، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عنه سبحانه: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري))، ولما كانت الكبرياء أعظم وأوسع كانت أحق باسم الرداء، فإنه سبحانه الكبير المتعال، فهو سبحانه العلي العظيم.
قال ابن عباس: (حجب الذات بالصفات، وحجب الصفات بالأفعال، فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال وسُتِرَ بنعوت العظمة والجلال؟!).
ومن هذا المعنى يُفهم بعض معاني جمال ذاته، فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات. ومن هنا يتبين أنه سبحانه له الحمد كله، وأن أحدا من خلقه لا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وأنه يستحق العبادة لذاته، ويحب الحمد لذاته، ويشكر لذاته"[1] اهـ.
وإذا كان الأمر كذلك فلا عجب أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة))، ومعنى ذلك ـ والله أعلم ـ أي: من حفظها وفهم معانيها ومدلولها وأثنى على الله بها وسأله بها واعتقدها دخل الجنة. والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون. فعُلِمَ أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته.
وينبغي أن يعلم أن أسماء الله توقيفية، لا تشتق من الأفعال ولا من الصفات، فما ثبت في الكتاب أو السنة أنه اسمٌ لله وجب الأخذ به والوقوف عنده وعدم تجاوزه، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَلْبَصَرَ وَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
وإن من الخطأ البين تسمية الله بما لم يثبت في الكتاب ولا في السنة إنما هو بحسب ما استحسنته عقول الناس، وهذا من الإلحاد في أسماء الله، ومثله خطرا أو أشد الإشراك بالله في تسمية المولود كمن يسمي ولده عبد الرسول وعبد النبي.
وينبغي أن يعلم أن ما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وما هو عليه سلف الأمة وخلفها إثبات الأسماء والصفات لله تعالى كما أثبتها هو لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف.
فلا نعطل صفاته عن مقتضياتها، ولا نمثلها بصفات المخلوقين، ولا نسأل عن كيفيتها، ولا نحرفها عن معانيها الحقة.
فانظر في نفي المثلية قوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء [الشورى:11]، وانظر في إثبات الصفة له سبحانه: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
جاء رجل إلى الإمام مالك رحمه الله وقال: الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ فقال الإمام: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا مبتدعا فأمر بإخراجه. الله أكبر.
عباد الله، إن آثار صفات الله وأفعاله في العباد ظاهرة:
تأمل في نبات الأرض وانظـر إلـى مـا صـنع المليـك
عيـون من لجيـن شاخصـات بأحداق هي الذهب السبيـك
على قضـب الزبرجد شاهدات بـأن الله ليـس لـه شريك
سبحانه ولو جحده الجاحد فإن في كل شيء له آية تدل على أنه الواحد.
من أسماء الله الحسنى (الرقيب).
اعلموا ـ يا عباد اللهِ ـ أن رقابةَ البشرِ على البشرِ قاصرة، وأن رقابةَ المخلوقاتِ على بعضها قاصرة. البشرُ يغفل، والبشرُ يسهو، ينام، يمرض، يسافر، يموت.
إذاً فلتسقط رقابةَ المخلوقين ولتسقط رقابة الكائنات جميعها، وتبقى الرقابةُ الكاملة، الرقابةُ المطلقة ألا وهي رقابةُ اللهِ جل وعلا.
باري البرايا منشئ الخلائق مبدعهـم بـلا مثال سابق
حـي وقيـوم فـلا ينـام وجـل أن يشبـه الأنــام
فإنـه العلـي فـي دنـوه وإنـه القريب جل في علّوه
لا إله إلا هو. فراقبوا الله عبـاد الله فإنه الرقيبُ عليكم.
يا من يرتكب المعاصي مختفياً عـن الناس أيـن الله؟
إنك أحد اثنين: إما أنك ظننت أن الله لا يراك فقد كفرت، أو أنك تعلم أن الله يراك وتجترئ عليه وتجعله أهون الناظرين إليك: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً [النساء:108].
يدخل بعض الناس غابة ملتفة أشجارها، لا تكاد تُرى الشمُس معها، فيقول: لو عملت المعصية الآن من كان يراني؟ فيسمع هاتفاً يملأ الغابة يقول: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، بلى والله.
فيا منتهكا حرمات الله في الظلمات، في الخلوات، في الفلوات بعيدا عن أعين المخلوقات، أين الله؟
هل سألت نفسك هذا السؤال.
في الصحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأعلمن أقواما من أمتي يوم القيامة يأتون بحسنات كأمثال الجبال بيضا، يجعلها الله هباء منثورا))، يقول ثوبان: صفهم لنا، جلِّهم لنا أن لا نكون منهم يا رسول الله، قال: ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم يأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)).
إلى من يملأ ليله وعينه وأذنه وضيع وقته حتى في الثلث الأخير من الليل، يملأ ذلك بمعاصي الله أين الله؟
فقد روى الثقات عن خير الملا بأنـه عـز وجـل وعـلا
في الثلـث الأخيـر ينــزل يقـول: هل من تائب فيقبل
هل من مسـيء طالب للمغفرة يجد كريمـا قابلا للمعـذرة
يمـن بالخيـر والفضـائـل يستر العيب ويعطي السائل
نسأله من فضله.
إن الله لا يخفى عليه شيء، فهلا اتقيته يا عبد الله.
عمر بن الخطاب يعس ليلة من الليالي ويتتبع أحوال أمة، ويتكئ على جدار ليستريح، فيسمع امرأة تقول لبنتها، امذقي اللبن بالماء ليكثر عند البيع، فقالت البنت: إن عمر أمر مناديه بأن لا يشاب اللبن بالماء، فقالت الأم: يا بنت قومي، فإنك بمكان لا يراك فيه عمر ولا مناديه، فقالت البنت المستشعرة لمراقبة الله: يا أماه، فأين الله؟ والله ما كنت لأطيعه في الملا، وأعصيه في الخلا.
ومن أسمائه (الحليم)، فلا يعاجل أهل معصيته بالعقاب، بل يعافيهم ويمهلهم، ليتوبوا فيتوب عليهم، إنه هو التواب الرحيم الذي اتصف بكل معنى يوجب التعظيم، وهل تجب العظمة إلا لرب الأرباب، خضعت لقوته وجبروته جميع العظماء، وذل لعزته وكبريائه كل كبير، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُـمْ فَتَـبَـارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ [غافر:64].
سبحانك اللهم ما أحلمك، سبحانك اللهم ما أكرمك، وهل حلمٌ فوق حلمه على الطغاة والجبابرة الذين أكثروا في الأرض الفساد، وأهلكوا الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد، إن الذين ظلموا وفتكوا ودمروا المساكن وقتلوا النساء والأطفال والشيوخ وهجروهم من منازلهم، مع حلم الله عليهم، وإمداده لهم، فإن الله سينتقم منهم، لأن الله هو المنتقم، وإنه ليمهل للظالم حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر، ولكن الله يصطفي من عباده من يشاء، ويتخذ من عباده شهداء، ويبلو بكل ذلك العباد حتى إذا جاء اليوم الموعود كان عقابه العقاب الأليم.
ألم تروا أنه سبحانه جعل قرية عاليها سافلها، وأرسل حجارة من السماء، وفتح السماء بالماء المنهمر، وفجر الأرض بالعيون، حتى التقى الماء على أمر قد قدر، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فليبشر المؤمنون بنصر الله فإن الله ناصر عباده المؤمنين.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم...
الخطبة الثانية الحمد لله ذي العزة والجبروت والكبرياء والعظمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وسلم تسليما كثيرا.
ثم أما بعد:فيا عباد الله، اتقوا الله ربكم، واعلموا أن الله تواب رحيم يغفر الذنب، وأنه شديد العقاب يأخذ بالذنب.
فأقبلوا على الله يقبل عليكم، وارجوا رحمته يغفر لكم، فاعبدوا الله رغبة فيما عنده من النعيم، ورهبة من عذابه، ومحبة لذاته سبحانه.
وقد قاربتم من إدراك شهر رمضان المبارك الذي هو شهر الخيرات والبركات، وشهر العطايا والرحمات، وشهر القرآن والذكر، وشهر الجهاد والمصابرة، وشهر النصر على الأعداء، شهر جمع الله فيه من الخير ما لم يجمعه في غيره، وليس الشأن ـ عباد الله ـ أن تدركوا هذا الشهر، إنما الشأن أن توفقوا لإحسان العبادة والإقبال على الله، فالموفق من وفق لاغتنامه، والمخذول من خذله الشيطان وأوبقته أعماله. وفي الحديث: ((رغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له)).
هيِّئوا أنفسكم لاستقبال هذا الشهر، وفرغوا أوقاتكم فيه، لا تجعلوه شهرا للتسوق والإكثار من الطعام والشراب والملابس، فإن هذا ليس من أخلاق السلف ولا فعالهم، بل كان السلف يحرصون على دقائقه ولحظاته.
________
[1] الفوائد بتصرف يسير في المقدمة. المصدر: المنبر