خطب شهر رمضان الكريم 2010
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله قدوة الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن لكل أجل كتاباً، وأن اللقاء والحساب عند الملك العلام ليجزي المحسن بإحسانه، ويعامل المسيء بإساءته، فمن اتقى الله وأحسن في دار العمل نال الرضا والرضوان والفوز بالجنان، ومن غلبه هواه، وفرط في جنب الله نال ما يستحق في الدار الآخرة.
عباد الله: ها هو شهر رمضان المبارك يودعنا، والحزن والأسى يملآن قلوبنا على فراقه، كيف لا!! وقد كانت أيامه أحسن الأيام، ولياليه أحسن الليالي، وجدنا فيه السعادة والهناء، والفرح والسرور بالصيام والقيام وتلاوة القرآن، وزيادة الإيمان في القلوب، فلله الحمد كثيرا، وله الشكر كثيرا على آلائه ونعمه وإحسانه وفضله.
عباد الله: إن قلوبنا تتقطع أسى على فراق شهر رمضان، وعيوننا تدمع حزناً على فراقه وذلك لما لهذا الشهر من مكانة خاصة في قلوبنا.. نقول بألسنتنا وقلوبنا:
وداعا رمضان بلياليك المزهرة المضيئة بقراءة القرآن وبعذب القيام.
وداعا بنهارك المشرق بنور الصيام وصون الجوارح عن الذنوب والآثام.
وداعا بنسمات المغرب العليلة والأيدى مرفوعة صوب السماء تنتظر لحظة رفع الأذان لتلهج إلى الله بالدعاء وبالثناء إيذانا بانتهاء الصيام وفرحة الفطر من الرحيم الرحمن.
وداعا يا شهراً حوى ليلة فضلت على ألف شهر، سلام من مغربها حتى فجرها، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربها.
وداعا وقد لمستَ شغافَ قُلوبٍ ظمئا فرويَّتها، وأرواحاً قلقة فسكنتَّها، ونُفوساً حَيارى فطمأنْتَها.
وداعا وقد كنا نعد أيامك ولياليك، ونحسب العمر فيك لا بالأيام والساعات بل بالثواني واللحظات.
وداعا وقد تركت قلوبنا نازفة وأعيننا دامعة.
وداعاً يا شهر الصيام والقيام..
وداعاً يا شهر الصبر والغفران ..
وداعاً يا شهر القرآن ..
وداعاً يا شهر الرحمات والبركات..
وداعاً يا شهر الجود والإحسان والخيرات..
وداعاً يا شهر التوبة والغفران والعتق من النيران..
وداعاً يا شهر الاعتكاف والخلوات، وداعاً أيها الضيف الكريم.
وداعاً ونحن نبكي عليك بكاء المفارق لحبيبه بل أشد، نعم فأنت شهر أحبَّنا وأحببناه، ورغِبَنا ورغبناه، وبذلنا الوسع فيه من أجل مرضات ربنا وحبيبنا ومولانا الكريم.
فإنا لله وإنا إليه راجعون .. وجبر الله مصابنا جميعاً على فراقه.
عباد الله: لقد انقضى رمضان سريعاً ولم يبق منه إلا القليل وانصرمت أيامه ولياليه، فهنيئاً لمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً، وهنيئاً لمن قرأ فيه القرآن وتلذذ بمناجاة الرحمن، وهنيئاً لمن خرج منه مغفوراً له وقد أعتقت رقبته من النار.
ويا حسرة من خرج منه وليس له من صومه إلا الجوع والعطش، وليس له من قيامه إلا السهر والتعب، ويا خيبة من فرَّط فيه وأضاع، ووقع فيما حرم الله.
فهنيئاً للمقبولين، وجبر الله كسر المحرومين، وخفف مصاب المغبونين.
كان علي رضي الله عنه ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان فيقول: (يا ليت شعري! من المقبول فنهنيه؟ ومن المحروم فنعزيه؟).
كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (من علامات القبول للصيام والقيام أن يكون حال العبد بعد الصيام أفضل من حاله قبل رمضان).
عباد الله: علينا أن نودع رمضان بما يجعل له أثراً في حياتنا بعد فراقه، وذلك بالتوبة النصوح من جميع الذنوب والآثام، وأن نعزم على أن يكون حالنا بعد رمضان أفضل من حالنا قبله، فقد خاب وخسر من عرف ربه في رمضان وجهله في غيره من الشهور، فإنه عبد سوء، وليغلب علينا الخوف والحذر من عدم قبول العمل، فما خسر عبدٌ عَملَه إلا بسبب الاغترار به.
جاء سائل إلى ابن عمر فقال لابنه أعطه دينارا فلما انصرف قال له ابنه تقبل الله منك يا أبتاه فقال لو علمت أن الله يقبل مني سجدة واحدة وصدقة درهم لم يكن غائبٌ أحبَّ إليّ من الموت. أتدري ممن يتقبل {إنما يتقبل الله من المتقين}(المائدة).
وكان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يوم فرح وسرور، فيقول: صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملاً، فلا أدري أيقبله مني أم لا؟
ورأى وهب بن الورد قوماً يضحكون في يوم عيد، فقال: إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كانوا لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين.
عباد الله: ومن أثر رمضان بعد فراقه أن نشكر الله عز وجل ونحمده أن بلغنا رمضان، ووفقنا فيه إلى الصيام والقيام، فقد حُرم ذلك خلقٌ كثير، والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح وذلك باجتناب المحرمات، والمبادرة إلى فعل القربات.
ومن ذلك أيضاً أن نسأله سبحانه أن يبلغنا رمضان القادم وما بعده، قال بعض السلف: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم.
ومن ذلك: الإكثار من ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، وتذكر أن العمر سينقضي كما انقضى رمضان، فإن الليالي مُبلياتٌ لكل جديد، ومفرقات عن كل لذيذ وحبيب، فالمغرور من غرته لذة الحياة الدنيا، والغافل عن آخرته المشتغل بدنياه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }(المؤمنون).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الصائمون والصائمات: لقد شرع لنا ربنا جل وعلا في ختام هذا الشهر عبادات جليلة، نزداد بها إيمانا وقربة إلى مسدي الفضل، وواهب النعم، ومن تلك العبادات: إخراج زكاة الفطر، والتكبير في ليلة العيد، وأداء صلاة عيد الفطر.
فأما زكاة الفطر: فهي عبارة عن صاع من بر أو تمر أو زبيب أو إقط أو أرز أو غيرها من قوت البلد. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)(متفق عليه)، وكلما كانت تلك الأصناف أطيب وأنفع للفقراء وأخرجها المسلم طيبة بها نفسه؛ فهو أفضل وأعظم أجراً، قال تعالى {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}(آل عمران:92).
ويخرج الإنسان صدقة الفطر عن نفسه وعمن يقوم بنفقته، ومحل إخراجها هو البلد الذي وافاه تمام الشهر وهو فيه، ومن كان في بلد وعائلته في بلد آخر فإنه يخرج فطرتهم في بلدهم، ويخرج عن نفسه في البلد الذي هو فيه، وإن عمَّدهم يخرجون عنه وعنهم في بلدهم جاز، وإن أخرج عنهم في بلده جاز.
والذين يعطون صدقة الفطر هم فقراء البلد الذين تحل لهم زكاة المال، سواء كانوا من أهل البلد أو من الفقراء القادمين عليه من بلد آخر.
وأنبه هنا إلى أمر هام: وهو أن على المسلم أن يتحرى من يعطيه زكاة فطره لأن بعض الناس يتعامل بزكاة الفطر وكأنها هدية، فيعطيها لقريبه الذي لا يستحقها، ويعطيها القريب لآخر من الناس، وهكذا فتصبح زكاة الفطر عادة وليست عبادة، لهذا وجب على من يخرج زكاة فطره أن يتحرى من يستحقها لكي تجزئه.
ولا يجوز نقل صدقة الفطر إلى بلد آخر بأن يرسلها إلى فقراء بلد غير بلده وفي بلده من هم أشد حاجة منهم، فإنه يرسلها إلى فقراء أقرب بلد إليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجها إلى فقراء البلد الذي يفطر فيه الصائم ليلة العيد.
وقال في زكاة المال (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم).
والأفضل في وقت إخراجها: قبل الصلاة في يوم العيد، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين فقط، ولا ينبغي أن يخرجها بعد صلاة العيد، بل تكون بعد صلاة العيد صدقة من الصدقات، ويأثم بتأخيرها، وتدفع إلى الفقراء، ولا يجوز لغني أخذها.
وأما التكبير في يوم العيد: فيشرع عند إكمال العدة من غروب شمس آخر يوم من رمضان إلى وقت صلاة العيد، وصفة التكبير: (الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)، وعليكم عباد الله بالجهر بالتكبير في المساجد، والبيوت والأسواق والطرقات، إعلاناً لشعيرة من شعائر الله وتعظيماً لله تعالى على إتمامه صيام شهر رمضان وفرحة بالعيد.
ويسن للمسلم الخروج إليها ماشياً إذا لم يشق عليه المشي، ويلبس أحسن الثياب، مع الحذر من اللباس المحرم من الحرير والذهب، فإنهما حرام على الرجال، ويسن حضور النساء غير متطيبات ولا لابسات لثياب زينة وشهرة، ولا يختلطن بالرجال، والحائض تخرج لحضور دعوة المسلمين وتعتزل المصلى، قالت أم عطية رضي الله عنها: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى تخرج البكر من خدرها، وحتى تخرج الحيض فيكن خلف النساء فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون ذلك اليوم وطهرته.
وعلى المسلم أن يؤدي الصلاة بخشوع وحضور قلب، ويكثر من ذكر الله ومن دعائه، ويتذكر بذلك الاجتماع اجتماع الناس على صعيد واحد يوم القيامة، في ذلك الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل.
عباد الله: ولعل من نوافذ الخير وأبوابه التي فتحت لأهالي هذه المحافظة والمقيمين على ثراها ما تم افتتاحه قريباً ــ وهو فرع جمعية إنسان للأيتام ــ حيث يعتني هذا الفرع بأيتام المحافظة وما حولها، ولذا أوصي إخواني بزيارة هذا الفرع واللقاء مع القائمين عليه والتعرف على مناشطه، والتعاون معه في البذل والإنفاق، والدلالة على الأيتام، والاطلاع على سير رعايتهم والقنوات التي يمر بها. وهذا العمل العظيم إذا لم على الوجه الذي تم التخطيط له فسيكون اليتيم أحظ رعاية وأكثر عناية من غيره لأنهم يتولون رعايته مادياً ومعنوياً وتربوياً ونفسياً بحيث لا يحتاج إلى رعاية أحد غير هذه الجمعية.
نسأل الله الكريم المنان ذا الفضل والإحسان أن يختم لنا شهر رمضان بغفرانه والعتق من نيرانه، وأن يتقبل منا قليل أعمالنا، وأن يغفر لنا تقصيرنا وجهلنا، وأن يوفقنا بعد رمضان بالاستمرار على طاعته على الوجه الذي يرضيه عنا، إنه سميع قريب وبالإجابة جدير.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).