شهر شعبان بين العادة والبدعه فضائل شهر شعبان
الخطبة الأولى :
عباد الله : إن الحكمة التي خلقنا من أجلها ، وأوجدنا لها هي عبادة المولى سبحانه .." [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] {الذاريات:56} ، يقول سيد ــ رحمه الله ــ هناك غاية معينة لوجود الإنس والجن ، تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده ، ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده وأصبح بلا وظيفة وباتت حياته فارغة من القصد ، خاوية من معناها الأصيل الذي تستمد منه قيمتها الأولى . أيها المسلمون : لا عجب أن يمتن الله سبحانه ويثنى على أكرم خلقه فيصفهم بأحب الأوصاف إليه وإليهم، فلم يناديهم سبحانه بوصف الرسالة ولا بوظيفة النبوة، بل دعاهم بما هو أزكى من ذلك وأكرم ، دعاهم بصفة العبودية له سبحانه: [وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ] {ص:45} ، [وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ] {ص:17} ، وأما خليله محمد صلى الله عليه وسلم فذكره بصفة العبودية في ثلاثة مواضع: [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى] {الإسراء:1} ، " ويقول سبحانه [وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوه] {الجنّ:19} ، ويقول أيضاً [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] {الفرقان:1} . عباد الله : في الأزمان والأوقات التي يغفل الناس فيها عن العبادة ويتناسون الطاعة ، في مثل هذه الأزمان تزداد مكانة العبادة ويعلوا شانها ، ويتضاعف أجرها ، ولذا يستحب عمارتها بالطاعة اغتناماً لمحبة الله تعالى لذلك، ولقد كان السلف الصالح رحمهم الله يستحبون إحياء ما بين العشاءين ويقولون : هي ساعة غفلة، وكذلك فضل القيام في وسط الليل ، لشمول الغفلة فيه عن الذكر من قبل اكثر الناس ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن ، وكذلك الفضل الوارد في الذكر في الأسواق حتى قال أبو صالح : " أن الله ليضحك ممن يذكره في السوق " وسبب ذلك أنه ذكرٌ في موطن الغفلة بين أهل الغفلة . أيها المسلمون : لقد ضاعف الله العبادة في الأزمان التي يغفل الناس فيها لكونها شاقة على النفس ، إذ النفوس كما يقول ابن رجب : تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء جنسها ، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم كثر أهل الطاعة ، لكثرة المقتدين بهم ، فسهلت الطاعات ، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس ، فيشق على نفوس المتيقظين طاعتهم ، لقلة من يقتدون بهم فيها ، ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم : للعامل منهم أجر خمسين منكم إنكم تجدون على الخير أعواناً ولا يجدون ... أخرجه الترمذي وغيره . عباد الله : لقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يخص شهر شعبان بعبادة من أجل العبادات ألا وهي الصيام ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان ، وجاء عند مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان إلا قليلاً ، ومن شدة محافظته صلى الله عليه وسلم على الصوم في شعبان أن أزواجه رضي الله عنهن كن يقلن إنه يصوم شعبان كله مع إنه صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شهر قط غير رمضان ، ولصيامه صلى الله عليه وسلم في شعبان حكم ومعان جليلة لعل منها : ما ذكره بعض أهل العلم من أن أفضل التطوع ما كان قريباً من رمضان قبله وبعده ، فيلتحق بصيام رمضان لقربه منه ، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها ، فيلتحق بالفرائض في الفضل ، وهي تكملة لنقص الفرائض ، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده ، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالنسبة للصلاة ، فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام من صام ما بعد منه ، ولذلك فإنك تجد رمضان يسبق بالصيام من شعبان والاستكثار منه ، ثم بعد انقضاء رمضان يسن صيام ستة من شوال ، فهي كالسنن الرواتب التي قبل وبعد الصلوات المفروضة . ومن المعاني أيضاً في صيام شهر شعبان : أن صيامه كالتمرين على صيام شهر رمضان ، لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة ، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته ، فيدخل في رمضان بقوة ونشاط . أيها المسلمون : لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه كما يقول ابن رجب رحمه الله ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ، ليحصل التأهب لتلقي رمضان ، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن ، ولقد كان السلف الصالح يجدون بالعبادة في شعبان ، استعداداً لرمضان قال سلمة بن كهيل : كان يقال شهر شعبان شهر القراء ، وكان عمر بن قيس إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن ، وكان يقال أيضاً : شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان سقي الزرع ، وشهر رمضان حصاد الزرع ، فيا عباد الله : يا من فرط في الأوقات الشريفة وضيعها ، ويا من استودع أزمانه بالأعمال السيئة ،ها قد مضى شهر رجب ، فما أنت فاعل في شعبان ،هذا حال نبيك صلى الله عليه وسلم ، وحال سلفك الصالح في هذا الشهر المبارك ، فيا ترى ما هو موقعك من هذه الأعمال والدرجات ؟ مضى رجب وما أحسنت فيه * وهذا شهر شعبان المبارك فيا من ضيع الأوقات جهلاً * بحرمتها أفق واحذر بوارك فسوف تفارق اللذات قهراً * ويخلي الموت كرها منك دارك تدارك ما استطعت من الخطايا * بتوبة مخلص واجعل مدارك على طلب السلامة من جحيم * فخير ذوي الجرائم من تدارك
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيها من الآيات والحكمة.
الخطبة الثانية : عباد الله : لا يفتأ المنحرفون والمبتدعون أن يستغلوا مواسم الخيرات وأزمان الهبات باستحداث ونشر الأحاديث الضعيفة والآثار الباطلة بدافع حث الناس على الخير وأزهم على العبادة ، وشهركم هذا شهر شعبان لم يخلو من تلك العبادات المستحدثة والآثار الضعيفة ، ولقد كفانا علماؤنا البحث عن صحة تلك العبادات وبينوا للناس حقيقة ما يدعوا إليه أولئك ، ألا وان من أبرز ما يروج له في هذه الأيام استحباب صيام وقيام ليلة النصف من شعبان لأنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم بزعمهم ، ولقد قال العلامة ابن باز رحمه الله تعالى حول هذه المسألة : " الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها ، وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم ، وليس له أصل في الشرع المطهر ، بل هو مما أحدث في الإسلام بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم ، ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله عز وجل [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3} ، وما في معناها من الآيات ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد .".ا.هـ رحمه الله . عباد الله : وأما ما اشتهر عند البعض من أن ليلة النصف من شعبان يقدر فيها ما يكون في العام فهو باطل كما يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله " لأن الليلة التي يقدر فيها ما يكون في العام هي ليلة القدر كما قال تعالى : [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ] {الدُخان:3} ، [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ] {الدُخان:4} ، هذه الليلة هي التي أنزل فيها القرآن وهي ليلة القدر كما قال سبحانه [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ] {القدر:1} ، وهي في رمضان الذي أنزل فيه القرآن، فمن زعم أن ليلة النصف من شعبان يقدر فيها ما يكون في العام ، فقد خالف ما دل عليه القرآن في هذه الآيات . أ .هـ رحمه الله . أيها المسلمون : أيام قليلة وينتصف شهر شعبان ، والصيام بعد النصف من شعبان له أحوال : صائم يصوم قضاءً لما فاته ، أو وفاءاً لنذر التزم به فهذا الصوم لا بأس به في حقه بل واجب. وصائم يصوم أياماً اعتاد على صيامها قبل شعبان كصيام الأيام البيض وصيام الاثنين والخميس فهذا جائز صومه. وصائم يتحرى بصيامه القرب من رمضان والاحتياط له، وخاصة يوم الشك فهذا الصوم محرم ومنهي عنه امتثالا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك . هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه .اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد .
|
|