صفحة المقالات_الكسب الحرام (أسبابه – أضراره)
اعلم – رعاك الله – أن طلب الحلال واجب على كل مسلم, وقد جاء الشرع الحنيف بالحث على السعي في تحصيل المال واكتسابه على أنه وسيلة لغايات محمودة ومقاصد مشروعة، وجعـل للحصول عليه ضوابط وقواعـد واضحة المعالم، لا يجوز تجاوزها ولا التعدي لحدودها كي تتحقق منه المصالح للفرد وللجماعة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [سورة البقرة: 168].
وقال: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سورة الأنفال: 69].
وقال: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [سورة النحل: 114].
ولقد نهى الإسلام عن الكسب الحرام لأنه شؤم وبلاء على صاحبه، فبسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويحل غضب الجبار، ويمنع إجابة الدعاء, بله إن وبال الكسب الحرام يكون على الأمة كلها فبسببه تفشو مساوئ الأخلاق من سرقة وغصب ورشوة وربا وغش واحتكار وتطفيف للكيل والميزان وأكل مال اليتيم وأكل أموال الناس بالباطل , وشيوع الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
ولقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأنه سوف يأتي على الناس زمان يتهاونون فيه في قضية الكسب فلا يدققون ولا يحققون في مكاسبهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام؟» [أخرجه البخاري].
بل إن بعض الناس لطمعه وشجعه يفتأت على ربه فيجعل الحرام حلالا والحلال حراما, قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} [سورة يونس: 59].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ وَأَحَلَّ حَلاَلَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلاَلٌ وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ وَتَلاَ {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} إِلَى آخِرِ الآيَةِ [أخرجه أبو داود (3800)، وقال الألباني إسناده صحيح].
وللكسب الحرام أسباب وأضرار نذكر منها:
أولاً: أسباب الكسب الحرام:
1- عدم الخوف والحياء من الله:
الخوف والحياء من الله تعالى وحسن مراقبته سياجات كلها تقي المسلم وتحميه من الوقوع في الحرام , ولقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم الحياء الحقيقي تعريفا جامعاً مانعاً فقال, عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ»، قَالَ: قُلْنَا: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ ِللهِ"، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّاْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» [أخرجه أحمد 1/387(3671)، (الترمذي 4/567 )، قال الألباني: حديث حسن، الروض النضير (601)، المشكاة (1608)].
فإذا نزع الحياء من المرء فإنه لا يبالي أكان مكسبه من حلال أم من حرام؟
روى أبو مسعود البدري مرفوعا: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» [صحيح ابن ماجة (4183)، الصحيحة (684)، صحيح الجامع (2230)].
يقول الشاعر :
إذا لم تخش عاقبة الليالي *** ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير *** ويبقى العود ما بقي اللحاء
وقال آخر:
ورب قبيحة ما حال بيني *** وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن *** إذا ذهب الحياء فلا دواء
تقول عائشة -رضي الله عنها-: "إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة: الورع".
ويقول الفاروق عمر -رضي الله عنه-: "كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام".
ولقد بلغ الأمر عند السلف أنهم إذا جلس الواعظ للناس قال العلماء: "تفقّدوا منه ثلاثاً: فإن كان معتقداً لبدعة فلا تجالسوه فإنه عن لسان الشيطان ينطق، وإن كان سيء الطُعمة فعن الهوى ينطق، فإن لم يكن مكين العقل فإنه يفسد بكلامه أكثر مما يصلح فلا تجالسوه".
ولقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرة حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن» [رواه البخاري ومسلم].
قَالَ أَبُو حَسَّانٍ عِيْسَى بنُ عَبْدِ اللهِ البَصْرِيُّ: سَمِعْتُ الحَسَنَ بنَ عَرَفَةَ يَقُوْلُ: قَالَ لِي ابْنُ المُبَارَكِ: "اسْتَعَرتُ قَلَماً بِأَرْضِ الشَّامِ، فَذَهَبتُ عَلَى أَنْ أَرُدَّهُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَرْوَ، نَظَرْتُ، فَإِذَا هُوَ مَعِي، فَرَجَعتُ إِلَى الشَّامِ حَتَّى رَدَدْتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ" (الزهد لابن المبارك 19, الذهبي: سير أعلام النبلاء 15/411, صفة الصفوة لابن الجوزي 2/239).
وروي عن امرأة صالحة أنه قد أتاها نعي زوجها (خبر وفاته) وهي تعجن العجين فرفعت يدها, وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شريك (تعني الورثة).
2- الحرص على المكسب السريع:
بعض الناس يستعجلون في قضية الرزق فهم يريدون الحصول على المال من أي جهة وبأي طريق حتى لو كان من حرام؛ فالمكسب السريع عندهم هو الغاية المرجوة والهدف المنشود, وقد يتأخر الرزق عن بعض الناس لحكمة يعلمها مقدر الأرزاق ومقسمها؛ فيحمله استبطاء الرزق على أن يطلبه بمعصية الله و ولقد حزر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال فيما رواه عنه ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من عمل يقرب من الجنة إلا قد أمرتكم به ولا عمل يقرب من النار إلا وقد نهيتكم عنه فلا يستبطئن أحد منكم رزقه فإن جبريل ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله فإن الله لا ينال فضله بمعصيته» [قال الألباني صحيح لغيره].
وجاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: «إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض»، قيل: "وما بركات الأرض؟"، قال: «زهرة الدنيا» [البخاري في صحيحه ج 5/ ص 2362 حديث رقم: 6063].
فليعلم العاقل أن الدنيا زائلة وأن موقوف ومسؤول بين يدي الله تعالى عن كل ما اكتسبه وكل ما أنفقه. عن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟، وعن علمه ماذا عمل به؟، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟، وعن جسمه فيم أبلاه؟» [قال الألباني حسن صحيح].
فلا يبع العاقل دينه من أجل نعيم زائل يزول مع أول صبغة في النار أعاذنا الله منها. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ النَّارِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟، هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟، فَيَقُولُ: لاَ، وَاللهِ، يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟، هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟، فَيَقُولُ: لاَ، وَاللهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ، وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» [رواه مسلم 8/135(7190)، وأحمد 3/203(13143)].
3- الطمع وعدم القناعة:
على المسلم أن يعلم علم اليقين أن الأرزاق مقسمة كالآجال, روي عنه عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه. والذي نفسي بيده لا يُسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمَن جاره بوائقه»، قالوا: "وما بوائقه يا نبي الله؟"، قال: «غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدّق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث» [أخرجه الإمام أحمد في المسند وإسناده ضعيف].
ففي الحرص لا يخلو المرء من تعب وفي الطمع لا يخلو من ذل, وقديما قيل "أذل الحرص أعناق الرجال"، وقال ابن أدهم: "قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع وكثرة الحرص والطمع تورث كثرة الغم والجزع"، والطمع يُعمي الإنسان عن حقائق الأمور ويُخفي عنه معالمها. وأنشد أحدهم:
جمع الحرام على الحلال ليكثره *** دخل الحرام على الحلال فبعثره
وقال الشعبي: حكى أن رجلا صاد قنبرة فقالت: "ما تريد أن تصنع بي؟"، قال: "أذبحك وآكلك"، قالت: "والله ما أشفى من قرم ولا أشبع من جوع، ولكن أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي، أما واحدة فأعلمك وأنا في يدك وأما الثانية فإذا صرت على الشجرة وأما الثالثة فإذا صرت على الجبل، قال: "هاتِ الأولى"، قالت: "لا تلهفن على ما فاتك"، فخلاها، فلما صارت على الشجرة قال: "هاتِ الثانية"، "لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون" ثم طارت فصارت على الجبل، فقالت: "يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين زنة كل درة عشرون مثقالا"، قال فعض على شفته وتلهف وقال: "هاتِ الثالثة"، قالت: "أنت قد نسيت اثنتين فكيف أخبرك بالثالثة؟، ألم أقل لك لا تلهفن على ما فاتك، ولا تصدقن بما لا يكون أن يكون، أنا لحمي ودمي وريشي لا يكون عشرين مثقالا فكيف يكون في حوصلتي درتان كل واحدة عشرون مثقالا"، ثم طارت فذهبت.
وهذا مثال لفرط طمع الآدمي فإنه يعميه عن درك الحق حتى يقدر ما لا يكون أنه يكون، وقال ابن السماك: "إن الرجاء حبل في قلبك، وقيد في رجلك، فأخرج الرجاء من قلبك يخرج القيد من رجلك" (إحياء علوم الدين للغزالي 3/240).
عنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ، أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ، بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ، وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» [أخرجه أحمد 3/456(15876), والتِّرمِذي 2376].
وذو القناعةِ راضٍ من مَعيشَتِه *** وصاحب الحِرْصِ إنْ أثرى فغضبان
وقال ابن عبد القدوس:
لا تَحرِصَنَّ فَالحِرص لَيسَ بِزائِد *** في الرِزقِ بَل يَشقى الحَريص وَيَتعَب
وَيَظل مَلهوفاً يَروح تحيلا *** وَالرِزقُ لَيسَ بِحيلَة يُستَجلَب
كَم عاجِز في الناسِ يَأتي رِزقُه *** رَغداً وَيحرم كيس وَيَخيب
وليعلم العاقل أن الحرام لا يدوم وأن ما جمع من حرام سوف يذهب مع الرياح, فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ رَجُلاً حَمَلَ مَعَهُ خَمْرًا في سَفِينَةٍ يَبِيعُهُ وَمَعَهُ قِرْدٌ قَالَ فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا بَاعَ الْخَمْرَ شَابَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ بَاعَهُ قَالَ فَأَخَذَ الْقِرْدُ الْكِيسَ فَصَعِدَ بِهِ فَوْقَ الدَّقَلِ قَالَ فَجَعَلَ يَطْرَحُ دِينَارًا فِى الْبَحْرِ وَدِينَارًا فِى السَّفِينَةِ حَتَّى قَسَمَهُ» [أخرجه أحمد 2/306(8041)، وصححه الألباني].
ومقابل هذه القصة قصة أخرى رواها لنا النبي صلى الله عليه وسلم عن القناعة وعدم الطمع, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اشترى رجل من رجل عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض ولم ابتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية. قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا» [رواه البخاري].
قال الشاعر :
أيا من عاش في الدنيا طويلا *** وأفنى العمر في قيل وقال
وأتعب نفسه فيما سيفنى *** وجمّع من حرام أو حلال
هب الدنيا تقاد إليك عفوا *** أليس مصير ذلك للزوال
4- الجهل بخطورة الكسب الحرام وحكمه:
كثير من الناس يجهل خطورة الكسب الحرام وحكمه وأثره السيئ عليه, ويتهاون في معرفة ما يحصله من أموال, وما يتناوله من طعام.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام فجاء له يومًا بشيء فأكل منه، فقال له الغلام: "أتدري ما هذا؟!"، فقال أبو بكر: "وما هو؟"، فقال: "تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية وما أُحسنُ الكِهانة إلا أني خدعته، فَلقينِي فأعطاني بذلك هذا الذي أكلتَ منه"، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه [وفي رواية أنه قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها اللهم إني أبرأ إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء [البخاري في كتاب المناقب، 3554.
ورُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: "من أين لك هذا؟"، فقال: "مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها"، فأدخل عمر يده فاستقاء.
وأوصت إحدى الصالحات زوجها وقالت له: "يا هذا، اتق الله في رزقنا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار".
ثانياً: أضرار الكسب الحرام:
1- ظلمة القلب وكسل الجوارح عن الطاعة.
الكسب الحرام له آثار وأضرار وخيمة على صاحبه فهو يؤدي إلى ظلمة القلب وكسل الجوارح عن طاعة الرب, ونزع البركة من الرزق والعمر.
قال صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به» [رواه الترمذي (558) وصححه الألباني].
وقال ابن عباس رضي الله عنه: "إن للحسنة نوراً في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق. وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنا في البدن، ونقصاً في الرزق وبغضاً في قلوب الخلق".
ويقول يحيى بن معاذ: "الطاعة خزانة من خزائن الله إلا أن مفتاحها الدعاء، وأسنانه لقم الحلال".
خرج الأمير شروان للصيد فأدركه العطش فرأى في البرية بستاناً وعنده صبي فطلب منه ماء فقال: "ليس عندنا ماء"، قال: "ادفع لي رمانة"، فدفعها إليه فاستحسنها فنوى أخذ البستان ثم قال: "ادفع لي أخرى فدفع له أخرى فوجدها حامضة"، فقال: "أما هي من الشجرة الأولى"، قال: "نعم"، قال: "كيف تغير طعمها قال لعل نية الأمير تغيرت فرجع عن ذلك في نفسه"، ثم قال: "ادفع لي أخرى"، فدفع له أخرى فوجدها أحسن من الأولى فقال: "كيف صلحت؟"، قال: "بصلاح نية الأمير" (نزهة المجالس ومنتخب النفائس, للصفوري صـ 7).
فأكل الحرام يحول الحلو إلى حامض, والرضا واليقين إلى الشك والسخط.
2- غضب الجبار ودخول النار.
الكسب الحرام يستوجب غضب الجبار ودخول النار , عن أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع حق امرئ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة»، فقال له رجل: "وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟"، قال: «وإن كان قضيبًا من أراك» [رواه مسلم في صحيحه].
عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للكسب» [أخرجه أحمد 2/235 و242 و413، والبيهقي 5/265].
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، "مَنْ هُمْ خَسِرُوا وَخَابُوا؟"، قَالَ: فَأَعَادَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: «الْمُسْبِلُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، أَوِ الْفَاجِرِ، وَالْمَنَّانُ» [رواه مسلم" 1/71(208)، وأحمد" 5/148(21644)].
روى البخاري من حديث خولة الأنصارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة» [رواه البخاري 6/ 165–166].
وعن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «لا يدخل الجنة جسد غذي بالحرام» رواه البيهقي في شعب الإيمان.
3- عدم قبول الدعاء:
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تليت هذه الآية عند رسول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا}، فقام سعد بن أبي وقاص فقال: "يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة"، فقال له النبيصلى الله عليه وسلم: «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يومًا وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» [أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط رقم 6640 وفيه ضعف].
ولقد حرص سعد على الكسب الحلال حتى يكون مستجاب الدعوة, لذا فقد قيل له: "لمَ تستجاب دعوتك؟"، فقال: "ما رفعت إلي فمي لقمة إلا وأنا أعلم من أين جاءت ومن أين خرجت".
ولما سعى أهل الكوفة به إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه أرسل جماعة للكوفة يسألون عن حاله من أهل الكوفة فصاروا كلما سألوا عنه أحدا قال خيرا وأثنى عليه, حتى سألوا رجلا يقال له أبو سعدة فذمه وقال: "لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية", فلما بلغ سعدا ذلك قال: "اللهم إن كان كاذبا فأطل عمره، وأَدِم فقره وأعمِ بصره، وعرضه للفتن، فعمي وافتقر وكبر سنه وصار يتعرض للإماء في سكك الكوفة فإذا قيل له كيف أنت يا أبا سعدة يقول شيخ كبير فقير مفتون أصابتني دعوة سعد" (أنساب الإشراف 3/296).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال : {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [سورة المؤمنون: 51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك» [صحيح مسلم (1686)].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ حَاجًّا بنفَقَةٍ طَيِّبَةٍ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، فَنَادَى: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَلالٌ، وَرَاحِلَتُكَ حَلالٌ، وَحَجُّكُ مَبْرُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ، وَإِذَا خَرَجَ بِالنَّفَقَةِ الْخَبِيثَةِ، فَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، فَنَادَى: لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَرَامٌ وَنَفَقَتُكَ حَرَامٌ، وَحَجُّكَ غَيْرُ مَبْرُورٍ» [أخرجه الطبراني في الأوسط (5/251 ، رقم 5228)، وقال الألباني ضعيف جدا].
فالكسب الحرام سبب في منع قبول الدعاء واستجابة الرجال ورفع العمل الصالح لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
4- عدم قبول العمل الصالح.
الكسب الحرام سبب من أسباب قبول العمل. عن ابن عباس والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليَقْذفُ اللقمة الحرام في جَوْفه ما يُتَقبَّل منه أربعين يومًا، وأيّما عبد نبت لحمه من السُّحْت والربا فالنار أولى به" [المعجم الأوسط للطبراني برقم (5026)].
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: "فلان شهيد، فلان شهيد". حتى مروا على رجل فقالوا: "فلان شهيد". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا، إني رأيته في النار في بردة غلها، أو عباءة». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ابن الخطاب، اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون». قال فخرجت فناديت: "ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون" [رواه مسلم].
قال أحدهم:
رأيتُ حَلالَ المالِ خيرَ مغَبةٍ *** وأجدرَ أن يبقى على الحدَثَانِ
وإِياكَ والمالَ الحرامَ فإِنه *** وبالٌ إِذا ما قدّم الكفانِ
وقال آخر:
لا ترغبنْ في كثيرِ المالِ تكنزهُ *** من الحرامِ فلا ينمى وإِن كَثُرا
واطلبْ حلالاً وإِن قلَّتْ فواضلهُ *** إِن الحلالَ زكيٌ حيثما ذُكِرا
ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها» [رواه مسلم].
ولتجعل شعارك: "أما الحرام فالممات دونه".
فاللهم ارزقنا الحلال وبارك لنا فيه, وجنبنا الحرام وبغضنا فيه.
دكتور/ بدر عبد الحميد هميسه